لقطة عن شاعر (1)
لعل تجربة الشاعر نزار قباني (1923- 1998) أبلغ حالة في الشعر السياسي و العاطفي المعاصر ، فهو قطع عدة أشواط ناجحة ، و ضرب بعمق و حيوية تعبيراته ، و سلاسة كلماته ، و قوة مضمونه ، ما عجز عنه غيره من شعراء هذا المضمار ، فدخل على حراك القلوب ، و مهجة النفوس ، و مدارك العقول أيضا ، فهو يقول " العمل الشعري لا يكتمل إلا بالآخرين " ، إيمانا منه بضرورة التواصل بين الشاعر و الجمهور ، مع المحافظة على التميز و تدفق الكلمة ، و إحساسها الصادق ، و هذا سر تميزه .
و نزار كما أحسبه ليس فارسا ، في الشعر و النثر السياسي فحسب ، بل من أعظم فرسان الشعر العاطفي ، خصوصا الجسدي و المباشر منه ، و هذا له بحث مختلف !
يقول عنه أحد الكتاب " كان نزارا يتلاعب بالألفاظ لعبا ، فيعبر عن نبض الرجل العربي و الشرقي ، المكبوت و الخائف الذي تخونه ثقافة التعبير " .
لعل في قصيدة (هوامش على دفتر النكسة) التي كتبها إبان حرب حزيران 1967 ، خير مثال على ولوجه للغة تميل إلى البساطة و عمق المعنى في آن ، كما تسير بإيقاع موسيقي جميل و مدهش ، وفي هذه القصيدة التي منعها النظام المصري حينها ، حتى بعث شاعرنا برسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر ، فأمر بإذاعتها رغم مرارتها على نظام خسر المعركة بكل سهولة !
يقول في بعض منها :
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
جلودُنا ميتةُ الإحساسْ
أرواحُنا تشكو منَ الإفلاسْ
و كما أنه أثار حفيظة الأنظمة العربية ، فقد فتح النار عليه من المجتمعات المحافظة ، و على رأسها رجال الدين ، بل وصل الأمر للبرلمان و محاولة فصله من وظيفته كديبلوماسي ، و هي الوظيفة التي و فرت له الإطلاع على ثقافات العالم ، و التحرر و الثورة على التقاليد بمفهومه الشخصي ، و لعل أبلغ مثال على ذلك قصيدة (خبز و حشيش و قمر ) التي كتبها في العام 1954 ، و التي هاجم فيها تعدد الزوجات و قدرة أولياء القبور على العلاج ، و وصف فيها الشعب العربي بالمخدر .
ارتبط نزار قباني بأحداث عصره ، و تفاعل معها بكل عنفوانه ، كتب خلالها مجموعة من القصائد المثيرة ،و شارك في العديد من المؤتمرات و المهرجانات الشعرية ، التي حركت الشارع العربي ، وفي فترة الثمانينات كانت الحرب الأهلية في لبنان ، و الحرب العراقية الإيرانية و التي كانت من توابعها ، انفجار السفارة العراقية ببيروت ، و الذي ذهب من ضحاياه ، زوجته العراقية بلقيس الراوي و التي كتب فيها مجموعة من أجزل و أعذب قصائدة و أكثرها ألما ! .
و في بعض من قصيدته (بلقيس) يقول :
بلقيسُ ...
كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِِلْ
بلقيسُ ..
كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرض العراقْ
كانتْ إذا تمشي ..
ترافقُها طواويسٌ ..
وتتبعُها أيائِلْ ..
بلقيسُ .. يا وَجَعِي ..
ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأناملْ .
أقام نزار في لبنان كثيرا ، و حين اشتدت الحرب فيها أقام سنواته الأخيرة بلندن حتى وفاته بها ، فساعده هذان البلدان بحكم البعد عن أنظمة الشرق الأوسط القمعية ، بالتشطيح بالسياسة العربية اتجاه القضية اللبنانية و الفلسطينية ، يقول في أحدى قصائده السياسية التي تقطر ألما ، بحالة الإنسان العربي في بلاده :
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق ..وموتى دونما كفن .
و كما خاض شاعرنا المتحرر ، في فنون السياسة و تعريتها ، و إظهار الصورة الحقيقية لرجالها، كما فعلها في دواوينه ( قصائد مغضوب عليها ، هوامش على الهوامش ، تزوجتك أيتها الحرية ) ، فقد انهمك في فنون العشق و النساء بطريقة أغضبت الكثيرين ، و أعجبت آخرين أيضا ، كما في دواوين (طفولة نهد، و الرسم بالكلمات ، قصائد متوحشة ) و هذا ماجعل لأشعاره أن تنتشر كالنار في الهشيم ، خاصة بين شباب الجامعات ، رغم منعها على المستوى الرسمي، أو من التيارات التقليدية ، فلقب لذلك بشاعر المرأة و الحب في كثير من الأحيان ، وهو يقول في ذلك " الفرق بيني و بين بقية العشاق ، أنهم يحبون في العتمة ، و ضمن الجدران المغلقة ، أما أنا -فلسوء حظي- أنني رسمت عشقي على الورق ، و ألصقته على كل الجدران " !
في واحد من أجمل دواوينه العاطفية ، و هو (كتاب الحب) الصادر عام1970 ، يقول في مقطع منه :
ما زلت تسألني عن عيد ميلادي
سجل لديك إذن .. ما أنت تجهله
تاريخ حبك لي .. تاريخ ميلادي
عزيزي القارئ لا يمكن لمقال أو كتاب ، أن يفي نزارا حقه في الدراسة و التحليل ، و نحن هنا مجرد إضاءة خافتة عنه ، فأعماله الشعرية و النثرية ، و مانشر من كتب و دراسات عنه ، ورقية كانت أو معلوماتية ، ربما تعطي الباحث مجالا واسعا ، يظهر صورة الشاعر الحسية و المعنوية ، و نظرته لمحيطه و خصوصا الحب و المرأة و السياسة ، وكلها ارتبطت بنشأته و تفاعله مع بعده القومي و التحرري .
لعلي بتواضع أرشح لك بعضا من قصائد الشاعر ، التي بلغت مبلغا واسعا من الإعجاب و التميز و الإنتشار :
- السيرة الذاتية لسياف عربي
- و طن بالإيجار
- الحب و البترول
- متى يعلنون وفاة العرب ؟
- 25 وردة في شعر بلقيس
- خمس رسائل إلى أمي
- مئة رسالة حب .
و إلى لقاء مع شاعر آخر ، لكم مني أحر تحية .