قليل من الوعي أو الكارثة مرة أخرى.
جميع المسلمين يحفظون عن ظهر قلب الحديث النبوي الشريف: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين."، وفي المقابل نراهم يلدغون من نفس الجحر مرات ومرات حتى مات إحساسهم باللدغات، وأصيبت ذاكرتهم بمرض الزهايمر.
والسبب في ذلك هو غياب الوعي السياسي فيهم، حيث نصيب أكثرهم من السياسة ما تتقيأ به وسائل الإعلام من أخبار وتحليلات ومقالات وتعليقات يأخذونها أخذ المسلمات، وينساقون وراءها مسلمين عقولهم لها تتصرف فيها كيف تشاء، وتأخذهم للمقصد الذي تريد.
حين يتنازل الإنسان عن عقله لغيره فإنه لن يكون بعد ذلك سوى ملعوب به أو ملعوب عليه.
يمكنه أن يكون وسط الملعب في دور الملعوب به، يركله هذا الفريق أو ذاك الفريق ليسجل به الهدف الذي يريد في مرمى الخصم، فيفرح الراكل ويحزن المركول ضده، أما هو (المركول به) فيبقى مجرد كرة فاقدة للمشاعر والأحاسيس.
ويمكنه أن يكون خارج الملعب في دور الملعوب عليه؛ يتفرج ويصفق ويشجع ويسب ويلعن ويتذمر دون أن يؤثر في مسار الأحداث شيئا.
المهم لدى اللاعبين أن يفرغ الملعوب عليه مشاعره خارج الملعب لا داخله.
حين يتنازل الإنسان عن عقله سيصبح مستباحا لتمرير كل الألاعيب السياسية بمختلف عناوينها عليه، تارة بعنوان مقتضيات المصلحة الوطنية العليا، وأخرى بعنوان درء الفتنة الداخلية، وثالثة بعنوان التصدي للأجندات الخارجية، وعاشرة بعنوان الطائفية والمذهبية، وهلم جرا، كما ستتكرر اللدغة بعد اللدغة.
إنه لا يمكن لإنسان أن يكنس التخلف في خارج ذاته وهو معشعش في داخلها، يعيث فيها فسادا يتمظهر في هذه الحالة الساذجة من الوعي السياسي التي تمارس الشيء ونقيضه في ذات الوقت.
فبعد مضي أكثر من عام على بدء الربيع العربي، لا يبدو المشهد اليوم مفضيا إلى ما كان يراد له من حرية وديمقراطية وحقوق إنسان ودولة حديثة تقوم على فصل السلطات وتحقيق المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والقضاء على الاستبداد والفساد.
فالوجوه القديمة أعيد تحضيرها للمشهد كي تواصل المسيرة ذاتها بأسلوب جديد، وانحسر دور الثوار الذين ألهبوا الساحات بحماسهم، ودفعوا الثمن غاليا من دمائهم وعذاباتهم، ثم حينما حان وقت الحصاد أسلموا أمرهم للاعبين الكبار، فأصبحوا﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثا﴾.
كيف يمكن أن ينطلي على شعب واع إعادة التموضع الذي يقوم به أركان الأنظمة الفاسدة السابقة ليصيروا هم أنفسهم سادة المشهد الجديد؟!
كيف يكون آخر الملتحقين بركب الثورات، الذين كانوا يقاومون التغيير حتى آخر لحظة، أول الراكبين في قطار السلطة الجديدة على مقاعد القيادة؟
كيف ترضى أمة أن يُحكم عليها بالعقم وعدم القدرة على إنجاب البدائل الصالحة لقيادتها في الطريق الصحيح؟!
الساذجون وحدهم سيظلون يصرون على إعمال أصل البراءة في أفعال السياسيين، ناسين أن ذمم السياسيين – إلا من رحم ربي، وقليل ما هم – تتسع لكل المتناقضات، أما من يفهم أبجديات السياسة فلن يقبل بهذا أبدا.
إنه الوعي مرة أخرى، يحضر فتحضر الحرية وأخواتها، ويغيب فتغيب.
في كتابه ذي الوعي المتفرد، ينبه الإمام علي تلميذه مالك الأشتر حين ولاه مصر إلى عدم الاستعانة بالوجوه القديمة من وزراء الفساد، بل عليه أن يبحث عن الطاقات والكفاءات ذات التاريخ النظيف والسمعة النزيهة. يقول له:﴿إِنَّ شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي اَلْآثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ اَلْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ اَلظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ اَلْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ﴾ .
ترى هل تستعيد الشعوب وعيها لتتخلص من واقعها المرير، أم ستظل تدفع الثمن ليستلم غيرها المُثمَن، تماما كما فعلت في عهد التحرير وطرد الاستعمار فكان أذناب الاستعمار وممثلوه هم البديل؟
المطلوب هو قليل من الوعي قبل فوات الأوان.