صناعة الخوف هل تصاب بالكساد؟
الخوف من التغيير صناعة تجيدها المؤسسات المناهضة له والتي يرتبط مصيرها باستمرار الواقع الراهن الذي يؤمن لها ولمصالحها البقاء.
فكلما ارتفع منسوب الخوف من القادم المجهول ازداد تبعا لذلك مستوى التمسك بالحاضر المعلوم وإن كان بادي العورة، إذ تُغض الأبصار عنه، ويُحمل الناظر إليه والمطالب بستره المسؤولية لأنه كان ينبغي عليه أن لا يرى فضلا عن أن يتكلم. لقد كان ينبغي لهذا الناظر أن يدرك حدود الرؤية المسموح بها حتى لا يقع في "التخبط والضلال"، وينساق مع دعوات التغيير.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾ سورة غافر.
صناعة الخوف مارسها فرعون ضد الحركة التغييرية الموسوية بكل دهاء ومكر، حين عبر عن خوفه على قومه من المستقبل الذي ينتظرهم من صاحب هذه الحركة.
﴿ِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26)﴾سورة غافر.
وصناعة الخوف مارسها هتلر عن طريق مهندسها وشيطانها الكبير (جوزيف جوبلز) وزير الدعاية النازي الذي كان من مبادئ الدعاية الإعلامية لديه ضرورة المحافظة على مستوى معين من الخوف لدى القوى الداعمة لهتلر حتى يستمر دعمها له.
ويذهب كثير من المفكرين أمثال نعوم تشومسكي وباري جلاسنر وأليكس جونز إلى أن الهدف من صناعة الخوف هو "زيادة الضبط الاجتماعي الذي تمارسه السلطة السياسية على الجماهير الخائفة؛ تلك الجماهير التي ينتابها الشك وعدم الثقة بالأشياء المحيطة بها، فلا تجد فرصة أمامها للتخلص من هذا الشك والريبة والخوف إلا بالاعتماد على النظام السياسي ودعمه" .
وقد أصبح الإعلام اليوم رأس الحربة في هذه الصناعة التي يشاركه فيها بالطبع جيش كبير يستخدم مختلف أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية لبلوغ أهدافه في بث الخوف ونشره على أكثر من مستوى حتى تنعدم الثقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، وحتى تنشغل بخوفها عن قضاياها الجوهرية.
لكل هذا فإن على دعاة التغيير أن يدركوا حجم الخوف ومصادره، وأن يكونوا على وعي تام بأساليبه المتعددة وأدواته المراوغة التي تستخدم في مجتمعاتهم، حتى يستطيعوا تطوير خطاب مضاد يبدد الخوف ويزرع الثقة مكانه.
صحيح إن الساعين للتغيير لا يملكون الإمكانيات الإعلامية الهائلة في مقابل خصومهم، ولكنهم قادرون – إن أرادوا- أن يفعلوا الشيء الكثير بالأدوات المتاحة، خصوصا في هذا الوقت الذي انكسر فيه الاحتكار الإعلامي، وانتشرت شبكات التواصل الاجتماعي.
هم قادرون على الهبوط بمؤشر الخوف لأدنى مستوى إذا استثمروا نقاط القوة لديهم المتمثلة في بؤس الواقع وقدرتهم على معايشته وملامسته وقربهم من المتخوفين من التغيير مما يكسبهم مصداقية أكبر.
تبديد الخوف وتكسيد منتجات صناعته يحتاج إلى الكثير من العمل المخلص القائم على ركيزة (البلاغ المبين) الذي يبشر بمستقبل أفضل واضح المعالم والرؤى، وينذر من مستقبل أسوأ في حال تلكؤ الاستجابة أو تأخرها، فمن المهم أن يتسم الخطاب التغييري بالواقعية والعقلانية، وأن يبتعد عن التجييش العاطفي الذي يريد أن يحقق مكاسب آنية بأي ثمن, فيهب الوعود الكاذبة والآمال العريضة التي لا يستطيع الوفاء بها.
هذا ما جعل كاتبا كبيرا هو الدكتور محمد سبيلا يكتب في مخاضات الحداثة بحرقة قائلا:
" لكن مكر التاريخ لا ينفصل عن مكر البشر، فالبشر المنخرطون في حركة التاريخ، وبخاصة الأفراد الفاعلين في مجال السياسة أو في قيادة الحزب، هم أيضا يوهمونك (وهم واهمون بدورهم) أنهم حملة مثل ومبشرون أخلاقيون وكائنات طاهرة نقية صافية خالصة انصهرت في حركة واتجاه التاريخ، وأنهم كائنات أوكل لها مهمة إنجاز وتحقيق مسار التاريخ.
وبعد انقشاع الضباب الأيديولوجي وانفراز القوى، يتبين أن هؤلاء المناضلين ليسوا إلا إرادات قوى شرسة مقنعة، وأن خلف قناع الخير إرادات قوى وهيمنة لا رادع لها".