حذاري من المقارنات القاتلة
عندما نكبر تقدم لنا الحياة الكثير من الأعلام كي نطاردها، وكثيراً منها يكون رموزاً خارجية لإنجازاتنا : ترقية، درجة علمية، مسكن جديد، سيارة آخر موديل، وغيرها من كيس رغبات الإنسان الذي لا قعر له، وقد تمثل أعلام أُخرى مستويات جديدة من النمو الداخلي الذي نسعى لتحقيقه مثل : الشعور بالرضا، الصداقات المتميزة، الحيوية الدائمة، وترك تراث شخصي يُعتدُّ به. إنّ الحياة بدون أعلام لنمسك بها تكون كئيبة ومُملّة حقاً.
ولكن عندما تُصبح الأعلام في حد ذاتها هدفاً، وعندما نرى أنه لزاماً علينا أن نهزم الآخرين ونطيح بهم أرضاً حتى نُمسك بتلك الأعلام الخفّاقة في سماء المشهد الإجتماعي، فقد تسيء الأمور بالنسبة لنا . ربما نحصل على ما نسعى من أجله لكننا قد نشعر بالخواء الداخلي عندما نبذل كل ما في وسعنا كي نمنع شخصاً آخر من الفوز بدلاً من السعي كي نتميّز.
ومع الأسف أنه في كثير من التجمعات البشرية أصبحت المنافسة عبارة عن تشتيت عظيم للجهد والطاقة الإنسانية في غير مكانهما، ومصدراً لصراعٍ غير بنّاء، ومن هنا فإن التركيز الشديد والمَرَضي على المنافسة يصبح أحد المعوقات الرئيسة للتقدم في الحياة بصفة عامة.
نعم هذا هو ما يُمكن تسميته بـ " المنافسة الهدّامة " وهي المنافسة التي يجب أن يخسر فيها شخص كي يفوز شخص آخر، وهي التي تعمل على إضعاف أفضل قدرات أغلبنا، فهي تصيبنا بالقلق وعدم الثقة في الآخرين دون مبرر يُذكر، وتجعلنا نحجم عن تقديم المعلومات، أو تحريفها من أجل تضليل المنافسين الآخرين من حولنا، وتدفعنا إلى أن نسْخر منهم ونحط من قيمتهم، ونهمِّش إنجازاتهم مهما كانت متميزة ورصينة، كما تجعلنا غير متسامحين تجاه عدم اليقين أو التغيير، وتُسهم في التقليل من مستوى تركيزنا بشكل كبير حتى يتلاشى الإبداع البنّاء عملياً في أدائنا.
إنّ المنافسة العمياء تعوق التعلم والإبداع، لأن الذين يعيشون ظروف المنافسة المحمومة يركزون فقط على الهدف الذي يسعون إلى تحقيقه بصورة تجعلهم ينسلخون عن المنظومة القيمية، ويعطون الكثير من الإنتباه القهري لما يقوم به منافسوهم، ويقارنون أنفسهم بالآخرين لا بالإمكانيات الأفضل، وهذه شخصنة مقيتة تعود على صاحبها بالضغط النفسي وضمور الإبداع، وتدفعه للحنق والكراهية والإنغلاق على الذات والغرق في وحل ثقافة الإستحواذ.
إنّ شَغْل الذهن بالتفكير في أفكار تنافسية قد يعيق الأداء الأفضل، ويزيد من إفراز هرمونات الضغط السلبية، ويؤدي إلى تصلب الشرايين، وتؤكد الدراسات التي أُجريت على لاعبي ألعاب القوى - على سبيل المثال - أنّ استخدام الكلمات التنافسية تضاعف مستويات هرمونات الضغط لدى المتسابقين ، وقد أوصى الباحثون الرياضيون بأن يمتنع اللاعبون عن التفكير التنافسي خلال التمرينات ، حيث يتحسن الأداء عندما يتخلصون من الضغوط السلبية.
يجب الإنتباه لهذا الجانب المُظلم من المنافسة وهو مع الأسف شائع بين البشر، ولا يحتاج المراقب إلى بذل جهدٍ مُضني لملاحظته لأنه طافح على السطح أينما شطّر وجهه، وفي أحيان كثيرة نبرره لأننا نحسبه الطريقة الأمثل لتحقيق الذات، وهذا هو السبب في أن الكثير من المؤسسات والأفراد تقع - دون أن تدري - في مصيدة المقارنات البغيضة التي تتسبب في إذكاء الروح العدائية حتى في نفوس من يُنظر إليهم بأنهم من المؤمنين، وهنا يكون الأمر في غاية السوء ظني . تحيّاتي .