الكثرة والقلة
«نتلقى في شكل شبه يومي بلاغات عن قضايا سحر وشعوذة».صرح بذلك الناطق الإعلامي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الشرقية علي القرني. لماذا يركب الناس زورق السحر والشعوذة؟ وهل انسدت أبواب معالجة المشاكل عليهم فسلكوا طريق السحر والشعوذة؟ أم هي حيلة المحتال ومطلب الضعيف ووسيلة المسكين والمتمسكن؟
من خلال متابعة قصص وأخبار السحر والشعوذة وجدت، كانطباع متكرر، بأن أغلب المترددين على السحرة والمشعوذين يعانون من مشاكل أسرية أفضت إلى أمراض نفسية ومنها تولدت أمراض عضوية وجسدية. بيد أن تفكيك حالة كل أسرة لتشخيص واقعها، حسب اعتقادي، يفضي لمعرفة عناصر البيئة الأسرية المؤدية لتلك المشاكل والأمراض. وهنا سأتطرق لعنصر واحد منها يساهم في كثرة مشاكل الأسرة، وهو حجم عدد أفراد الأسرة، لما له من سلبيات وايجابيات في قلته أو في كثرته.
يختلف الحال بين الكثرة المترابطة لعدد الأفراد أم القلة المتفككة. وعلم «حجم الأسرة: Family size يدل عند دراسة الخصوبة على عدد الأطفال الذين أنجبهم الزوجان في وقت معين» وهناك فرق بين موضوع الكثرة والقلة لمعيشة الأسرة الواحدة أو مجموعة أسر في منزل واحد.
لا شك بأن البنين ذكورا وإناثا زينة الحياة الدنيا لقوله تعالى: ﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ﴾ الكهف:46، ولكن لا يعني ذلك الاستسلام لرغبة التكاثر الأرنبي بشكل غير مدروس، أو الانصياع لهوى التكاثر المعملي بصورة غير منظمة، لأن للتكاثر المفرط نتائج وخيمة على الأسرة نفسيا وتربويا واقتصاديا وسلوكيا وأمنيا. وقد يظن البعض خطأ بأن مكمن المشكلة فقط في الجانب المادي ومدى قدرة الأسرة على تحمل تبعاتها من التكاثر. بيد أن إفرازات التكاثر السلبية الأخرى لا تقل أهمية عن الجانب المادي، بل تفوقها أحيانا.
وقد يكون ولد واحد صالح أو ابنة واحدة صالحة بمثابة ﴿ زينة الحياة الدنيا ﴾، لأن تحقق هذه الزينة ليس بالكم، بل بالكيف. من جانب آخر فإن الوالدين، الأب والأم، كطاقة مربية تحتاج إلى توزيع على الأبناء والبنات بحيث يحصل كل ابن وبنت على حقوقهم التربوية والنفسية والتعليمية والمادية كاملة، وأي إخلال في بند منها سينعكس مستقبلا على شخصياتهم.
من هنا تأتي أهمية عملية التخطيط الأسري لعدد دورات الإنجاب المناسبة لكل زوجين. لا يخضع الأمر للرغبة فحسب، بل يخضع لقدرة الأبوين على إدارة البيت والتحكم في مساراته التربوية والنفسية والتعليمية... وهذه القدرة تخضع بدورها لعوامل متعددة مرتبطة بطبيعة الزوجين وقدراتهما النفسية والسلوكية والثقافية ومدى استعدادهما لتحمل المسؤولية.
ثقافة التكاثر تختلف في زمن دون آخر، كما تختلف طبيعة الحياة في الأزمنة القديمة من التاريخ عما هي عليه اليوم. فإذا كانت كثرة الأبناء من علامات قوة الأسرة قديما حيث متطلبات الحياة الإنسانية والاجتماعية للفرد والأسرة قليلة، فقد لا تكون كذلك مع متطلباتها المتزايدة في عصرنا الحاضر. و«فيما يخص الأبناء، فبالإضافة إلى أن حياتهم وسلامتهم معرضة للخطر دائما، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداء بدلا من أن يكونوا عونا في اجتياز المشاكل والصعوبات».
وقد أشار القرآن لهذا المضمون في قوله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ التغابن:14. وقد تتحول الكثرة إلى عذاب كما يحدث للمنافقين عندما يقول عنهم الله سبحانه وتعالى: ﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾ التوبة:55. وقال رسول الله : «أولادنا أكبادنا، صُغراؤهُم أمراؤنا، وكبراؤهم أعداؤنا، فإن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا».
لذا على الأسرة المُبتلاة بكثرة عدد أفرادها إعادة تنظيم نفسها لتتمكن من التحكم في شؤونها وعدم الاستسلام للواقع القائم. وهو أمر ممكن من خلال بعض الخطوات الجريئة مع عزيمة قوية لتحقيق السعادة الأسرية. بداية المشوار تتمحور حول خلق وإعادة صناعة الأهداف المشتركة بين أفراد الأسرة، لأن بعض الأسر، عندما يكثر عدد أفرادها، يتحول كل فرد فيها للبحث عن متطلباته هو بغض النظر عن متطلبات شركائه في الأسرة، بل أحيانا يسعى لتحقيق مصالحه حتى لو اصطدمت بمصالح الآخرين أو تسببت في أذيتهم.
وهناك خطوات أخرى مثل: الاعتماد على قاعدة المحبة والمودة لا قاعدة الحقوق والواجبات لأن الأولى إذا تحققت استصحبت الثانية. اقتناع الجميع بأن نجاح أحدهم يعني نجاحا للجميع، بينما فشل أحدهم سينعكس سلبا على البقية. ترسيخ مفاهيم التعاون والتآلف والشفافية والصدق مع التطبيق العملي لكل مفردة بشكل ثنائي بين الأفراد وبشكل جماعي.