حق الأم
" فَحَقُّ أُمِّكَ، فَــأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتكَ حَيْثُ لا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَدًا وَأَطْعَمَتكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبها مَا لا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَنَّهَا وَقَتكَ بسَمْعِهَا وبَصَرِهَا ويَدِهَا وَرِجْلها وَشَعْرِهَا وبَشَرِهَا وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا مُسْتَبشِرَةً بذَلِكَ، فَرِحَةً مُوَابلَةً(مواظبة)، مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُها وأَلَمُها وثِقْلُها وَغَمُّهَا حَتَّى دَفَعَتهَا عَنْكَ يَدُ الـقُدْرَةِ وَأَخرَجَتكَ إلَى الأَرضِ فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وتجـُوعُ هِيَ، وَتَكْسُوكَ وَتعْرَى، وَتُرْوِيكَ وَتَظْمَأُ وَتُظِلُّكَ وتَضْحَى، وَتُنَعِّمَكَ ببُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذُكَ بالنَّوْمِ بأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحِجْرُهَـــا لَكَ حِوَاءً(الحواء : ما يحتوي الشيء من حوى الشيء إذا أحاط به). ، وثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، ونَفْسُهَـــا لَكَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنيَا وبَرْدِهَا لَكَ وَدُونَكَ، فَتَشْكُرَهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَلا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاّ بعَونِ اللَّهِ وَتَوفِيقِهِ".
شهد مجتمعنا تغيرا سلبيا في منظومة علاقاته الاجتماعية على أكثر من صعيد، ومنها بل أهمها العلاقات الأسرية، حيث تأثر البعض بثقافة الأفلام والمسلسلات التي تجعل مشاهد الصراخ والحدة والانفعال والغضب في حضرة الوالدين أمرا مألوفا لا يُخرج الإنسان عن دائرة الأدب، بل قد يُعتبر جرأة محمودة للخروج من جلباب الأبوين. ومن هنا تأتي أهمية حديثنا عن حقوق الوالدين بدءا بحق الأم.
فقد اهتم الإسلام ببناء الأسرة باعتباره اللبنة الأساسية في تكوين المجتمع السليم، وأفاض في الحديث عن حقوق الوالدين بما لا مزيد عليه. والمتأمل في الآيات الكريمة والروايات الشريفة يجد أمامه كما هائلا من النصوص التي تبين عظم تلك الحقوق، وترشد في وصاياها وتوجيهاتها إلى كيفية أدائها على خير وجه، وأن ذلك لا يتم إلا بعون الله وتوفيقه.
والإحسان إلى الوالدين وشكرهما المأموران بهما في الآيات والروايات لا يسقطان عن الولد بحال حتى وإن كان الوالدان فاجرين أو مشركين أو كافرين أو ظالمَين له، إذ أن الظلم لا يبرر الظلم. فقد ورد عن إمامنا الصادق عليه السلام أنه قال:" مَن نَظَرَ إلى أبَوَيهِ نَظَرَ ماقِتٍ وهُما ظالِمانِ لَهُ، لم يَقبَلِ اللّهُ لَهُ صلاةً ". وعن الإمام الرضا عليه السلام،أنه قال:" بِرُّ الوالِدَينِ واجِبٌ وإن كانا مُشرِكَينِ، ولا طاعَهَ لَهُما في مَعصيَةِ الخالِقِ".
أما المقصود بالإحسان فقد فسره الإمام الصادق حين سأله أبو ولاد الحناط عن قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
فقال: «الإحسان: أن تحسن صحبتهما، ولا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين، أليس الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ؟».
قال الراوي: ثم قال أبو عبد الله : «وأما قول الله عز وجل: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما- قال- إن أضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما إن ضرباك- قال- وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً- قال- إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم- قال- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ- قال- لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، و لا تتقدم قدامهما».
وبالإضافة لهذه التوصيات الحقوقية الشاملة لكلا الوالدين، فقد أولت النصوص أهمية خاصة لحق الأم نظرا للمتاعب والمشاق الإضافية (المعبر عنها قرآنيا بالوهن والكره) التي تتحملها الأم من حمل ووضع وإرضاع وحضانة ، ونظرا لدورها الأكبر في رعاية وتربية الأبناء بما تفيضه عليهم من حنان وشفقة ومشاعر لا تقدر بثمن، ولا يعوضها شيء. يقول تعالى:﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾ سورة لقمان.
﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا.﴾ سورة الأحقاف آية 15
فهاتان الآيتان تذكران الوصية أولا بالوالدين، ثم تركزان على ما تحملته الأم وما أعطته في فترة الحمل والوضع والرضاع، وذلك لبيان أهمية حقها. وهذا ما أكد عليه هذا المقطع من رسالة الحقوق، حيث فصل الإمام عليه السلام أدوار الأم المختلفة، وتضحياتها الجمة، وإيثارها ونكرانها لذاتها، وعطاءها المكتنز بالحب والعواطف الجياشة حتى في أقسى الظروف وأحرجها. وهو ما أعطاها حقا إضافيا فوق حق الأب.
«جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك».
وكما أمر الإسلام ببر الوالدين وعلى رأسهما الأم، فقد حذر من عقوقهما واعتبره من كبائر الذنوب التي تكون لها عواقب خطيرة في الدنيا والآخرة.
عن النبي : يقال للعاق: اعمل ما شئت فإني لا أغفر لك.
وعن الإمام الهادي : العقوق يُعقِب القلة، ويؤدي إلى الذلة.
وللعقوق مصاديق كثيرة لا ينبغي الاستهانة بأي منها مهما دنت مرتبته، لأنها عقوق في المآل. فعن الإمام الصادق ، قال: «أدنى العقوق أف، ولو علم الله عز وجل شيئا أهون منه لنهى عنه»، وعنه أيضا " مِن العُقوقِ أن يَنظُرَ الرّجُلُ إلى والِدَيهِ فيُحِدَّ النَّظَرَ إلَيهِما" .
نسأل الله العون لنا ولكم على بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما. ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.