حق الأب
وَأمَّا حَقُّ أَبيكَ فَتَعْلَمَ أنَّهُ أَصْلُكَ، وَأنَّكَ فَرْعُهُ، وَأَنَّكَ لَوْلاهُ لَمْ تَكُنْ. فَمَهْمَا رَأيْتَ فِي نفْسِكَ مِمَّا يُعْجِبُكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَاكَ أَصْلُ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِيهِ وَاحْمَدِ اللَّهَ وَاشْكُرْهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَلا قُوَّةَ إلاّ باللهِ.
الحديث عن حق الأب هو استكمال للحديث عن حقوق الوالدين الذي بينا بعضه في حديثنا عن حق الأم، إلا أن التركيز هنا على مقام الأب وضرورة استحضار الولد لهذا المقام كلما تقدم خطوة للأمام، إذ عليه أن يتذكر أن وجوده ما كان ليكون لولا الأب الذي جعله الله تعالى سببا لجريان فيض الوجود على الابن. ومَن كان هذا دوره فهو بالتالي أصل كل نعمة متجددة على الولد.
معرفة هذا المقام للوالد يمنع الإنسان من الانفصال عن والده أو التكبر عليه، أو التقصير في رعايته والبر به، ويدفعه إلى ترسيخ وتوطيد العلاقة معه والإحسان إليه، وإلى شكر الله تعالى كونه المنعم الحقيقي ومسبب الأسباب.
لقد فصلت الروايات الشريفة حقوق الوالد على ولده، ذكرنا بعضها في الحديث السابق، وهذه أخرى:
عن رسول الله لما سئل عن حق الوالد على والده، قال: " لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يُستسب له". فهذه مجموعة من الآداب التي ينبغي مراعاتها لتوقير مقام الأب، كعدم مخاطبة باسمه وعدم المشي أمامه، وعدم سبقه بالجلوس، وأن لا يتسبب في توجيه سب أو إهانة له من خلال سوء سلوكه مع الآخرين الذين قد يردون الصاع صاعين.
وعنه أيضا: من حق الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب.
وعن الإمام علي : إن للولد على الوالد حقا، وإن للوالد على الولد حقا؛ فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه.
وعن الإمام الصادق : يجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء: شكرهما على كل حال، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله، ونصيحتهما في السر والعلانية.
وتتميما للفائدة نوضح أمرا يختص بحق الأب في التصرف في مال ولده، إذ يعطي بعض الآباء نفسه صلاحية مطلقة في ذلك، مؤيدا تصرفه بما ورد في الروايات: " أنت ومالك لأبيك". فيقوم الأب مثلا بالاستيلاء على رواتب ابنته العاملة، وصرفه في الموارد التي يريد دون أدنى مراعاة لحقها أو استئذانها.
وهنا لا بد من وقفتين:
الأولى: إن الأحكام الشرعية ينبغي أن تؤخذ من المراجع العظام، وليس من خلال الأفهام الشخصية.
الثانية: هذه الرواية من الخطابات الوعظية كما فهم الفقهاء من ذلك. جاء في مصباح الفقاهة للسيد الخوئي (قدس سره): قد وردت هذه الجملة المباركة في الروايات المتظافرة الصحيحة وغيرها، ولكنّها راجعة إلى الجهات الأخلاقية الناشئة من الجهات التكوينية ، فإنّ الولد بحسب التكوين من المواهب الإلهية للوالد ، فلا يناسبه أن يعارض أباه في تصرّفاته.
كما ذكر البعض أنها قضية في واقعة، أي حكم مختص بقضية محددة، إذ كان الأب معسرا، وألجأته الظروف للتصرف في مال ولده، كما ورد في الرواية التالية:
عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؟ قَالَ: قُوتُهُ بِغَيْرِ سَرَفٍ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ فَقَدَّمَ أَبَاهُ فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَ بِأَبِيهِ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبِي قَدْ ظَلَمَنِي مِيرَاثِي مِنْ أُمِّي فَأَخْبَرَهُ الْأَبُ أَنَّهُ قَدْ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ. وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرَّجُلِ شَيْءٌ أَفَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَحْبِسُ الْأَبَ لِلِابْنِ؟!
أخيرا نذكر بواجب الإحسان إلى الوالدين، وعدم التسبب في أدنى أذى لهما، وعلى كل واحد أن يتذكر أن بره بوالديه سيجلب له سعادة الدارين، وعقوقه سيرتد عليه وبالا في الدنيا والآخرة.
فعن رسول الله ، أنه قال: " اثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين".