العين: شحمة تتكلم
شحمة أقوى من الصخر و أشد حرارة من الجمر, بل ربما كانت أرق من الماء و أشد برداً من الثلج. رغم صغر حجمها و ضيق حيزها وقلة حركتها تصنع ما يعجز عنه اللسان و اليد و سائر الأعضاء.
تغضب فتحتد و تحزن فتذرف دمعا , تفزع فتضطرب و تفرح فتلمع, و تتأمل متسمرا فتستقر, و تستذكر شيئاً فتتجه للأعلى و يسقط في يدك فتتجه للأسفل.
لها لغة لا يفهمها إلا أهلها. فعين الشك و الريبة و عين الرضى و عين السخط.
بها تأمر و تنهى , و بها توعد و تعد.
تفصح عن مكنون قلبك دون إذنك فتفضح حقدك وحسدك أو تنشر حبك و عطفك.
من شدة بأسها يخيل للناس أنها هي التي تحسد و تحقد و كأن من سلبه الله نعمة البصر كفي مؤونة الصراع مع ما يعتلج في صدره من دوافع الحسد.
ومن عظم شأنها لا يحق للطبيب تسليطها على خصوصيات مرضاه إلا اضطراراً , و إن كانت المرآة كافية ففيها مندوحة عن تسليط العين على ما حرم الله.
يقيس بها أهلها شدة ذكائك , و يبدو لهم منها مدى تقديرك و احترامك.
يراقبونها عند السلام , و يلاحقونها أينما اتجهت حين الكلام.
يحبون الوصولة ويسأمون من التائهة و يمقتون المشيحة.
بها يميزون الكاذب من الصادق, و يعرفون المجرم من البريء, و بها يعرف جمال الجرأة و قبح الجراءة , و قلما تخطئ العين في تعرية المتكبر و الشهادة للمتواضع.
يبصر بها أهلها إعجابَك بهم أو امتعاضَك منهم, فيسرون لإعجابك و يساؤن لامتعاضك, إلا من رحم ربي ممن يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر.
يغض المرء بصره حياء و عفة أو ربما انكساراً و مهانة. يغض الأدنى منك بصره عنك خشية منك و لا يحد الأعلى منك بصره خشية عليك.
وقد تلتقي العينان فما تنفك إحداهما إلا بهزيمة الأخرى. حدة النظر في الوالدين عقوق و في الأعداء جهاد و في عموم الناس سوء خلق.
و أمير المؤمنين يدعو بأن تقر عينه – الموت – إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة ، عين المطمئن قريرة , و عين الحاسدة حارة , و عين الطامع في غير أهله زائغة, و عين قليل الحياء قوية , أما قساة القلوب فعيونهم جامدة.
عين تقع على صفحات كتاب الله فتعطى بذلك أجراً , و تزيغ أخرى إلى ما حرم الله فتكسب بها خطيئة و إثما.
تقع عينك على عينها أو -عينكِ على عينه- فينصدع قلبك و يطير لبك و تنفتق بذور العاطفة الحبيسة فيحضر المتعهد بترجمة النظرات و تأويلها (إبليس) و يبدأ الترجمة الفورية الحرفية الخاطئة و يفسر الظاهر و الباطن ابتغاء الفتنة.
هي أضعف من اختراق غشاء رقيق و أشد فتكاً من النار, يحركها السلطان الغشوم فتسقط بحركتها الرؤوس و تترمل النساء, و يحركها العارفون سلوكاً إلى الله و أدباً عالياً لا يدركه من لا حظ له من فهم لغة العيون , شتان بين الأعشى و زرقاء اليمامة.