متعة التغيير الذاتي . لماذا لا ؟
من المؤكد أنكم تستمتعون بمجموعة المواعظ والدروس التي تهدينا إياها آيات القرآن الكريم سواء بصورة مباشرة أو تلك التي تنقلها إلينا أحداث القصص التي تحمل الكثير من آيات العبر سواء أكان أبطال وشخصيات تلك القصص من الأنس ، أو الجان ، أو الحيوان ، أو الطير وغيرها من مخلوقات العزيز الحكيم . ومنها قصة ذلك الغراب الذي بعثه الله إلى ( قابيل ) ليعلمه - ونحن من بعده - كيف يواري جثمان أخيه ( هابيل ) بعد أن قتله ظلماً وجوراً وتورط بدمه ذنباً وبجثمانه دفناً . وإلاّ فما حال جثامين البشر الآن ( رحمة الله عليهم ) هل الحرق كما في معتقدات أتباع بعض الديانات الوضعية ( العياذ بالله ) أم ماذا ... ؟
كان ذلك مدخلاً لأنتقل معكم من الغراب ( كمعلم ) في فنون الدفن والمواراة إلى معلم آخر في مجال التغيير والتطوير الذاتي ، ومفاتيح التغلب على الصعاب والتخلص من عوامل التعرية التي تفرضها علينا الطبيعة التكوينية ، أو المناخية التي تحيط بنا سواء أكانت إجتماعية أو إقتصادية ، أو جغرافية ، أو ........ !!
معلمنا أيها الأحبة هو : ( الصقر ) الذي هو أطول أنواع الطيور عمراً ، ولكن حتى يعيش الصقر لهذا العمر ، عليه اتخاذ قرارا صعبا عندما يبلغ 40 عاما حيث تعجز أظافره التي كانت تتميز بالمرونة عن الإمساك بالفريسة وهي مصدر غذائه ، ويصبح منقاره القوي الحاد معقوفا شديد الانحناء بسبب تقدمه في العمر ، وتصبح أجنحته ثقيلة بسبب ثقل وزن ريشها وتلتصق بالصدر ويصبح الطيران في غاية الصعوبة بالنسبة له هذه الظروف تضع الصقر أمام خيارين :
1. إما أن يستسلم للموت الذي لا مفر منه والحال كهذه حيث الجوع والهزال والهلاك .
2. أو أن يخضع نفسه لعملية تغيير مؤلمة تستمر لمدة 150 يوما . أي : ( خمسة شهور ) .
وبطبيعة الحال فغريزة البقاء على قيد الحياة تدفعه – وأي مخلوق آخر – لأن يتبنى الخيار الثاني الذي يتطلب منه أن يقوم بالتحليق الى قمة الجبل الى حيث عشه ويقوم بضرب منقاره على صخرة بشدة حتى تنكسر مقدمته المعقوفة وعند الانتهاء من كسر مقدمة المنقار، ينتظر حتى ينمو المنقار من جديد . ثم يقوم بعد ذلك بكسر مخالبه أيضا. وبعد أن تنمو مخالبه ، يبدأ في نتف ريشه القديم بعد خمسة أشهر يطير في رحلته الجديدة وكأنه ولد من جديد ... ويعيش 30 سنة أخرى بعد كان قاب قوسين أو أدنى من الهلاك لو إستسلم للظروف الخارجية وأصبح من ( القدريين ) الذين يقولون : ( ليس بالإمكان أبدع مما كان ) .
يا سبحان الله كيف لهذا الصقر أن يدرك أهمية القيام بعملية التغيير الذاتي لكي يستمر عائشاً بكفاءة وإقتدار ، وكيف أنه يعزل نفسه ( ويعتكف ) لمدة ( 150 ) يوماً لإعادة تطوير ذاته وتعزيز إمكانياته ، وضمان بقائه ( بإذن الله ) بينما نضيق ذرعاً بلحظة إنتظار واحدة بل ونكاد ننفجر غيضاً من أي مجهود تتطلبه منا عملية التغيير الذاتي لتحقيق السعادة لنا ولمن حولنا ، ولا نكتفي بذلك بل ويعمل بعضنا على إحباط من يجتهد لتغيير ذاته وتطوير ملكاته من أجل حرمانه من ميزة التفوق والتميز والإرتقاء .
في كثير من الأحيان فإننا نحتاج الى القيام بالتغيير ( كما فعل الصقر ) إذا كنا نريد التكيف مع واقعنا والإستمرار في الحياة بكفاءة وجدارة . أعلم جيداً إن عملية التغيير هي عملية صعبة وشاقة ومكلفة ، فلكي يتسنى لنا إدراك التغيير والتطوير الذاتي الفعال لابد لنا من تفعيل ( قانون القطع ) وهذا يعني أن تقطع صلتنا بكل الماضي الذي لا يتناسب مع متطلبات الحاضر ويمكننا من مقابلة المستقبل والتكيف مع تقلباته المتسارعة ، وهذا بدوره قد تضطرنا الى أن نتخلص من ذكرياتنا القديمة وعاداتنا المتأصلة وتقاليدنا البالية ( ما هو سيء منها طبعاً ) لأن تحررنا من ( ما هو سلبي ) من أعباء الماضي هو وحده الكفيل بالإستفادة من حاضرنا والتخطيط لمستقبلنا بصورة أفضل . قال تعالى : ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ (11) سورة الرعد .
فالتغيير يجب أن ينطلق من داخل الإنسان أولاً لكي يتسنى له التأثير على كل ما هو خارج ذاته البشرية ، والبيئة المحيطة به . لأن الباري عز وجل منحنا الإرادة وكرمنا بها . فالأصل في الإنسان القدرة وليس العجز كما يتصور بعض الناس . وفي علم السلوك : إن إعتقاد فرد ما بعدم القدرة ، إنما يعني ذلك بصورة تلقائية ( عدم الرغبة ) وهنا تكمن المشكلة . وكما يقول خبراء التغيير الذاتي وتطوير الشخصية : ( إعطنا رغبة . نمنحك الإرادة ) . كما أنه لا يوجد فشل في الحياة – كما تم ذكره في مقال سابق – بل توجد نتائج . ومن جانب آخر فقد منحنا الله جلَّت قدرته ضمن قوانين العقل الباطن . القانون الآخير منها وهو الذي يحمل الرقم (13 ) بعنوان ( قانون الإستبدال ) وهذا ما عبر عنه أبو القاسم الشابي بقصيدته الذائعة الصيت إرادة الحياة بقوله :
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بــد لليــــل أن ينـجــلي ولا بد للقيــد أن يـنكسر
في كتابه ( العادات السبع لذوي الفاعلية الفائقة ) يطرح ( ستيفن كوفي ) معالجة شاملة وواضحة من اجل حل المشكلات الشخصية والمهنية كما يتضمن مبادئ التكيف مع التغيير إلى جانب الحكمة والقدرة على الإفادة من الفرص التي يتيحها التغيير ، ويذكر : فيما يخص العادة ( السابعة ) التي تتوج العادات ( الست ) التي قبلها وتجعلها ذات فاعلية دائمة يذكر عادة ( شحذ المنشار ) التي تقول : لكي تكون فعالاً يجب أن تجدد قوتك ومقدراتك متمثلةً في الأبعاد الأربعة للذات الإنسانية " الجسم ، العقل ، الروح ، العاطفة " وهذا يتطلب تنمية الجسم بالرياضة ، وتنمية العقل بالمعرفة والثقافة ، وتنمية الروح بالإيمان والقيم ، وتنمية العواطف بالتواصل مع المجتمع وصولاً إلى المنفعة المتبادلة وشحذاً لملكات الإنتماء . ما أجمل الإيمان بالتغيير كإسلوب حياة ( كما يفعل الصقر ) وما أحلى أن يبادر المرء لتجديد خلايا جسمه ، وعقله ، وروحه ، وعاطفته . بنفس القدر الذي يحرص عليه لتجديد مسكنه ، وملبسه ، ومأكله ، ومشربه ، وسيارته ، وعمله ، وأصدقائه إن لزم الأمر ، ( وزوجته لا سمح الله ) دمتم في تغيير دائم من حسنٍ إلى أحسن . اللهم آمين . ولكم تحياتي .