عندما يضيق صدر الوطن
هيرتا مولر الألمانية التي نالت جائزة نوبل للآداب عام 2009 م، كان يمكن أن تكون مفخرة لرومانيا، حيث ولدت فيها في عام 1953 م في قرية تسكنها أقلية ناطقة بالألمانية
ولكن لأنها كانت تنتمي إلى أقلية ألمانية في رومانيا الشيوعية ذات النظام الشمولي الاستبدادي، حيث الحديث محظور عن الهويات الخاصة وحقوق الأقليات، وحيث الإدماج القسري هو الخيار الوحيد، فقد عانت الأمرين من التضييق المعيشي والأمني والفكري، وطردت من العمل لأنها رفضت التجسس لصالح المخابرات الرومانية في عصر الدكتاتور "تشاوشيسكو"، كما حرمت من تدريس الألمانية رغم حيازتها شهادة من جامعة تيميشوارا.
كان كل ذنب هيرتا مولر أنها تنتمي للأقلية الألمانية، وكان هذا سببا كافيا يجعل صدر الوطن يضيق بها وبكتاباتها ورواياتها التي كانت تعرض ما تعانيه هذه الأقلية من اضطهاد وتعسف، حتى اضطرت أخيرا، في العام 1987 م، إلى الهرب من جحيم رومانيا إلى ألمانيا الغربية، حيث فتحت الجامعات الغربية أمامها الأبواب، واستنشقت هواء الحرية التي حرمت منها طويلا.
انتهت مأساة هيرتا مولر، إذ سقطت الشيوعية، واستيقظت الهويات المقموعة في كل أنحاء أوروبا الشرقية، وتشظى الاتحاد السوفياتي، وتغيرت النظرة للأقليات في ظل الأنظمة الديمقراطية الجديدة، وأصبح التنوع الثقافي منحة بعد أن كان محنة، وفازت مولر بجائزة نوبل، أما مأساة الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية في عالمينا العربي والإسلامي فلم تنتهِ بعد لأننا لم نستوعب حتى الدرس الأول من قواعد التعامل معها، وما زلنا نظن أن بإمكان الأكثرية النافذة فرض هويتها على الآخرين.
ولعل أبلغ الدروس التي يجب أن تستقى هنا أن أفضل وأسرع الطرق لدمج الأقليات في مجتمعاتها هو الاعتراف بخصوصياتها الثقافية وحقوقها السياسية المشروعة بدءا من حق المواطنة الكاملة، لأن كل محاولات التكييف القسرية لن تجدي نفعا في نهاية المطاف، وستظل الأقليات حقيقة واقعية لا يمكن القفز فوقها وتجاهلها. لا يمكن بأي حال سحق أو تبديل هويات الأكراد والشيعة والبربر والشركس والدروز والأقباط والطوارق وغيرهم ممن يشكلون أقليات في بعض مناطق العالمين العربي والإسلامي ، إذ إن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الأزمات المفتعلة.