نظرة عابرة لواقع الأمة وحاجات الثقافة الدينية للإصلاح
الثقافة الدينية وأثرها في بناء العلاقة بين الفرق الإسلامية(*)
لا شك أن الثقافة الدينية كما هي في تصورها وواقعها الإنساني كانعكاس أو امتداد للدين، تختلف كثيراً أو قليلاً عن الدين نفسه في مصادره وأصوله – وهذا أمرٌ معروف بطبيعة الحال -. وهذا الافتراق هنا بين الدين نفسه وتصوره، إنما هو افتراقٌ طبيعي في ظل ضرورات الاجتهاد الفقهي والديني وحاجاتنا الواقعية لتفسير الدين وتفصيله وشرح تلك النصوص الدينية الأصيلة المتوارثة جيلاً بعد جيل، بلحاظ تعدد ظروف الواقع تجاه النص وظرف نزوله أو صدوره، وبلحاظ ما علق ويعلق بالنص باستمرار من تلويث نصي وتفسيري على مر العصور خصوصاً بعد انقطاع الوحي وغياب صاحب الرسالة. وهذا الأمر هنا (من التباين الحتمي بين قداسة الأصل وقداسة الفرع)، رغم وضوحه وبساطته بل وبداهته هو في الواقع الحياتي المعاش أبعد ما يكون عن الفهم والاحتواء والاستيعاب البشري العام في حياة أكثر المتدينين المسلمين في الأمة بل ورموزها غالباً، بل وهو مصدرٌ لكثيرٍ من تلك التناقضات والإشكالات المشهودة في واقع الأمة وسلوك أفرادها وجماعاتها.
وهنا تأتي قيمة وأهمية الثقافة الدينية والحديث عنها في بعدها كرافد مهم من روافد السمو أو الانحطاط بالأخلاق وبعلاقات أبناء الأمة بمختلف مذاهبها الإسلامية. حيث يؤدي الغلو هنا من قبل الأفراد و / أو بعض الرموز الدينية في تقديس النص التفسيري للدين وإعطائه قداسة ومكانة النصوص الدينية الأصيلة أو مصادر التشريع الأولى (نتيجة عوامل مصلحية أحياناً، أو معرفية وعاطفية في أحيانٍ أخرى) بطبيعة الحال للتشدد بشكل أو بآخر تجاه آراء المخالفين وتجاه مختلف الاجتهادات الأخرى للأفراد والجماعات داخل الأمة. ومن هنا تولد تلك الصراعات والسجالات والعلاقات الحادة بين أتباع المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة بل وبين أبناء المذهب الواحد، وهذا بالطبع ما عاشت الأمة ويلاته، وما لازالت تعاني من ويلاته بلا شك وتعيش ضرره حتى اليوم.
وهنا تنبعث قيمة وأهمية دور ووظيفة الإصلاح الثقافي الديني في الارتقاء بواقع الأمة لوضعها على جادة الطريق الصحيح في طرق التفكير السليم والتسامح والتماسك، لتحقق الأمة بالتالي مجدها المنطلق من وحدتها وتماسك مكوناتها المختلفة والذي أراده الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم لهذه الأمة ضمن أهداف الدين العليا، وفق مقتضى وهدفية النصوص القرآنية والنبوية، والتي منها قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) سورة آل عمران - آية 103، والمهمة هنا بلا شك مهمة عظيمة هي مهمة الواعين من أبناء الأمة، الحريصين على رفعتها وتنميتها وتقدمها، والمدركين لحقيقة مصالحها العليا.
طبعاً، يعتقد بعض أبناء الأمة وبعض رموزها الدينية في الواقع خطأً للأسف، كما هو معلوم من خلال واقع التطرف الديني بكل أشكاله وألوانه وانتماءاته، أن الاقتتال بينهم نتيجة اختلاف الرؤى الثقافية الدينية أمرٌ مشروع. متجاهلين في الحقيقة سيرة الإسلام الأولى العطرة، وسماحته في واقعه وفي نصوصه الصريحة والواضحة، حتى في معاملة الأعداء والشجر والحجر والمدر بالحسنى، مصطفين لذلك نصوص الحرب والضرورات الحياتية الاستثنائية أو مجتزئين لبعض النصوص من سياقاتها أو مائلين بها عن معانيها.
ورغم أن المقام هنا ليس مقام التفصيل والتوسع في ذلك، إلا أن ما يمكن قوله هنا بإيجاز هو أن سيرة صاحب الرسالة ، منذ حلف الفضول وما قبله، إلى حجة الوداع وما بعدها، وكل ما في حياته من وقوف ومواقف ضد الظلم والاعتداء والجهل، ودفع للمظلومية وحقن للدماء ودعوات لحقنها، وما أكدته حجة الوداع في بيانها، وما رسخته كل تلك السيرة العطرة والأخلاق الكريمة الممتدة مع قوله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقبول الإسلام بآلية الاجتهاد الديني رغم خاتمية وقداسة الرسالة، وعمله بالتغاضي عن أعدى أعداء الأمة المنافقين واحتوائهم، وكذا التعايش معهم ومع أتباع الأديان الأخرى، كلها شواهد واضحة وأكيدة وصريحة، على سماحة الإسلام ومنطقيته من جهة، وأيضاً على مشروعية الاختلاف في تفاصيله وحوله من جهة أخرى.
وفي الحقيقة، فلقد لعبت العوامل المصلحية الأنانية الفردية والفئوية البشرية لا الدينية، عبر تاريخنا الإسلامي الممتد، لعبتها في قولبة الثقافة الإسلامية بقوالبها، ليتم التغاضي عن ذلك التسامح ولتصبح ثقافتنا ثقافة اقتتال واحتراب ونزاع وافتراق بسبب تناقض المصالح، حيث تأتي المصالح وتناقضاتها لتلعب لعبتها المعهودة في الثقافة بأشكال فاقعة أحياناً أو غالباً، فتلوى وتجتزأ النصوص وتحور عن مواضعها ويتم انتقاؤها بطرق شعورية تارة ولا شعورية تارة أخرى، ثم ينعكس ذلك كله على صورة الدين وفهمه وتفسيره لدى الناس، لتتعمق أزمة الإنسان والدين والأمة وفهم الأمة لدينها وصياغتها لثقافتها.
لكن، تطورت الحياة الإنسانية في العقود الأخيرة وظهرت الدولة الحديثة بكل مكوناتها وتمت إعادة هيكلة الأمة وصياغة دوائر المصالح في أوصالها بطرق جديدة مختلفة كثيراً عما كانت عليه، فلم يعد الفرد اليوم مستقلاً أو قادراً على الاستقلال بنفسه أو بأهله وأسرته أو بعشيرته أو بقبيلته ومصالحها كما كان ذلك في الماضي، فالحياة اليوم كلها مترابطة بقوة. وهذا يدفعنا اليوم بلا شك، نحو المزيد من الأمل في قدرة التنوير والعقلانية على النفاذ إلى وعي الأمة وفهمها لثقافتها وفكرها لصياغة فكر وثقافة دينية نقية توحد الأمة وتدفعها للرقي والتكامل.
إننا اليوم كأبناء وطن مسلم أصيل، أمام مشروع حضاري إنساني وطني مهم ينسجم بشكل كامل مع الدين وروحه الحقيقية وينبعث من نصوصه الثابتة ليؤسس لإنسان سوي وأمة عظيمة ووطن قوي متماسك، بعيداً عن أهواء وأمراض غير الأسوياء والعابثين من أبناء البشر.
والرسالة هنا كما أسلفنا، رسالة المتنورين من أبناء الأمة، الذين يتوجب عليهم توظيف طاقاتهم الفكرية والذهنية لإعادة نقاش نصوص الشريعة وفهمها والنفاذ لروحها لتقديم ثقافة سليمة تنزع ما لصق بالدين من فساد الجهل والأهواء والنزعات المصلحية الأنانية المريضة فتزيل من الثقافة الدينية لوثة الماضي وآثام الاحتراب والنزاع، وتنشد بجهودها المتواصلة والجادة والمستمرة الإصلاح والتسامح والتنمية، وتدعو للوحدة والتطوير وتطهير الثقافة والتراث، وبناء الأمة القوية في ظل احترام مختلف مكوناتها، بل وأيضاً احترام غير أبنائها على موازين تنافس سليمة، بما تحمله الأمة حينها من فهم إنساني سليم تجاه غيرها، وبقبول عقلي واقعي لاختلاف الاجتهاد في وسطها، وسعي حثيث للنجاة من الفرقة والفشل الداخلي، خصوصاً ذلك الذي يسببه فساد الظلم والتشدد في الآراء وخراب روح الاستبداد التي يرفضها ديننا الحنيف وكل نصوصه الأصيلة السامية، التي أراد الله أن نسير عليها وأن نتمسك بها لنكون دعاة خير وصلاح ورحمة ونموذج بشري راقي لكل البشر.
والسلام.