المتدفقة حبا
في كل مقطع من حياتها قصائد حب عذراء لا تتكرر.
في كل دور من أدوارها (بنتا، زوجة، أما) كان الحب طريقتها الأثيرة.
بالحب أصبحت -وهي الفتاة الصغيرة سنا الكبيرة مقاما- أما لأبيها سيد الخلق أجمعين .
وبالحب كانت الزوجة المثالية التي قاسمت زوجها الأدوار، وقامت بإدارة بيتها خير قيام.
وبالحب كانت الأم التي تغدق حنانها على أولادها وتغرس فيهم كل جميل حتى أصبحوا مضرب المثل في العلم والحلم والعفاف والشجاعة والصبر وجميع مفردات منظومة القيم العليا.
سوف نختار بعض المشاهد التي نقلها لنا التاريخ حتى تستبين بعض الصورة، أما كل الصورة فلا سبيل له أبدا.
المشهد الأول: كانت لا تزال صغيرة، ربما تبلغ التاسعة من عمرها عند وقوع هذه الحادثة التي يرويها البلاذري في (أنساب الأشراف). يقول: وكان أبو جهل في نفر من قريش ، فيهم عقبة بن أبي معيط ، وكان أسفَهَ قريش، بالحجر ، وكان رسول الله يصلى فأطال السجود . فقال أبو جهل : أيكم يأتي جزورا (أي ناقة) لبني فلان قد نحرت اليوم بأسفل مكة ، فيجيء بفرثها (أي أوساخها) فيلقيه على محمد ؟ فانطلق عقبة بن أبي معيط ، فأتى بفرثها ، فألقاه على ما بين كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد . فجاءت فاطمة عليها الصلاة والسلام ، فأماطت ذلك عنه ، ثم استقبلتهم تشتمهم .
هكذا دافعت عن أبيها الذي غمرها بالحب الأبوي النبوي الأعظم، فغمرته حبا وعطفا وحنانا.
المشهد الثاني: عن أبي سعيد الخدريّ، قال : أصبح عليّ عليه السّلام ذات يوم وقال : يا فاطمة عندك شيء تغذّينيه ؟ قالت : لا والَّذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شيء أغذّيكه وما كان عندي شيء منذ يومين إلا شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين حسن وحسين ، فقال عليّ: يا فاطمة ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئا ؟ فقالت : يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن تكلَّف نفسك ما لا تقدر عليه.
مشهد من مشاهد الحب والإيثار نحتاج استحضاره والاقتراب من ساحته، خصوصا في زمننا الراهن الذي أُثقِلت فيه الحياة الزوجية بالكثير من الأمور غير الضرورية، والتي ساهمت في تنكيدها وتنغيص لذتها، بل تسببت أحيانا في إنهائها.
لقد علمها أبوها رسول الله درسا عظيما في إدارة بيت الزوجية، حين قال لها كما في الرواية عنها : لا تسألي ابن عمك شيئا ، إن جاءك بشيء عفوا وإلا فلا تسأليه.
وطبقت هذا الدرس وغيره خير تطبيق، فجعلت من بيتها ومن نفسها سكنا آمنا مستراحا. يقول الإمام علي : ولقد كنت أنظر إليها فتنجلي عني الغموم والأحزان بنظرتي إليها.
المشهد الثالث: عن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قال : رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني الجار ثم الدار.
في هذا المشهد يتدفق الحب تعليما لابنها وفيضا على الآخرين، وتقديما لهم على النفس. إن أعظم تجليات الحب الصادق أن تذكر الآخر في غيبته فتدعو له، لأن ذلك يكشف عن النقاء والصفاء والطهارة الداخلية النابعة من قلب سليم متعلق بالله تعالى.
المشاهد كثيرة، ويكفينا استلهام أحدها كي نعيد حساباتنا ونتعلم كيف نتدفق حبا.
دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.