المحبوسون في زنزانة الهوية
كثير من الناس يحبسون أنفسهم أو يقبلون بحبس غيرهم لهم في زنزانة ضيقة اسمها الهوية الصلبة، أي التي ترى الحق كله منحصرا فيها، والباطل فيما عداها. وإذا أخذنا بقول المؤلف المسرحي والشاعر والروائي الأنجلو أيرلندي أوسكار وايلد أن أكثر الناس أناس آخرون Most people are other people ، أي أن أكثر الناس هم نتاج ظروفهم وبيئاتهم وصنيعة أناس آخرين في الواقع من حيث لا يشعرون. إذا أخذنا بهذه المقولة سنكتشف السجون الكثيرة التي قبلنا بها وعشنا فيها كأنها قصور مترفة، والسبب أننا لم نفكر في فحص وتدقيق مسلماتنا التي شكلتنا وصاغت شخصيتنا، وتحكمت بطريقة تفكيرنا ونظرتنا للأشياء والأشخاص والأفكار من حولنا.
عندما يتخندق كل فرد داخل هويته الضيقة، ويسد عليه النوافذ المطلة على الآخرين، فمن الطبيعي أن تتضخم لديه الذات فتصبح حائلا بينه وبين رؤية غيره بصورة سليمة متزنة. ومن يستقرئ التاريخ سيجد أن الملايين من الناس تمت تصفيتهم جسديا أو وأدهم فكريا ومعنويا أو سُلبت أو هُضمت حقوقهم بناء على انتمائهم لهوية مختلفة دينية أو مذهبية أو عرقية أو إثنية أو غيرها.
لماذا استباح ذوو البشرة البيضاء حرمات السود فاسترقوهم وعاملوهم معاملة ظالمة لا تليق بكونهم بشرا مثلهم؟ وكيف استمرأ الناس الفصل العنصري والتمييز في كل شيء على أساس اللون، وكأنهم يملكون اختيار ألوانهم؟ بل حتى لو كان بإمكان كل أحد أن يختار لونه، فلماذا تنتهك حقوقه بسبب خياراته؟
ولماذا اندلعت الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وأصبح قتل الآخر المختلف واجبا دينيا يتقرب به المرء إلى ربه، وصارت محاكم التفتيش تصدر أحكام الإعدامات بالجملة باسم الله وابتغاء رضوانه؟!
ولماذا وقعت الحرب الأهلية بين قبائل الهوتو وقبائل التوتسي في رواندا، وتسببت في قتل قرابة مليون شخص وتشريد الألوف من أبناء وطن واحد؟ ولماذا حدث ما حدث في يوغسلافيا السابقة بين الصرب والكروات والبوسنيين؟
وحتى لا نشير للبعيد دائما، فإن تاريخنا العربي والإسلامي وواقعنا الراهن حافل بالكثير من المآسي الأليمة التي كانت ذات أبعاد طائفية ومذهبية. بل ربما سيكون الصراع المذهبي العنوان الأبرز في ساحاتنا بناء على معطيات الراهن البائس؛ حيث لا تزال المواطنة مفردة غريبة في مجتمعاتنا، ولا يزال التمييز الطائفي فاقعا في العديد من الدول، حتى صار غير الدينيين طائفيين أيضا، ولا يزال القتل على الهوية الطائفية مستشريا بشكل دموي عنيف.
نحن نعلم أن أغلب هذه الصراعات يؤججها السياسي ويفتعلها للوصول إلى مآربه وتحقيق مصالحه. وكل ما يقوم به هو استثمار البيئة الخصبة لزرع الفتنة وسقيها ورعايتها. وسيبقى السياسي سياسيا لا يفهم سوى خطاب المصالح، ولذا فإن العمل ينبغي أن ينصب على إعادة تشكيل وعي الجماهير حتى تكون قادرة على نقد مسلماتها، ومن ثم رؤية الحقيقة غير منحصرة في هويتها، مما يؤهلها لقبول الآخر والتسامح والتعايش.
إننا بحاجة ماسة لثورة ثقافية تكنس مفردات التخلف والتطرف وأولها احتكار الحقيقة في هوية مفردة واستمراء العيش في زنازين الهويات الضيقة، ومن دون ذلك سنكون خارج التاريخ، وسنصحو بعد خراب البصرة.
تبنت الكنيسة مقولات بطليموس وأرسطو عن مركزية الأرض، وأصبح ذلك جزءا من مكونات هوية معتقداتها الصلبة التي سجنت نفسها داخلها، فلم تفحصها أو تسمح لأحد بفحصها. حاكمت العالم الإيطالي الفلكي والفيزيائي جاليليو متهمة إياه بالهرطقة عندما قام بعد التجربة بتأييد ما توصل إليه كوبر نيكوس من القول بمركزية الشمس وليس الأرض. وبعد الحكم عليه بالإقامة الجبرية ومنع كتبه، اضطر للاعتكاف في منزله حتى وفاته في 1642 م، وبعد مائة عام أي في العام 1741 صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب جاليليو. هكذا اكتشفت الكنيسة خطأها الجسيم، ولكن بعد فوات الأوان.