تغافلوا أيها الأذكياء
لا أحد يتقبّل أن يصفهُ الآخرون بأنه : مُغفّل، أو على نيّاته،أو أنه من أهل الله،كما يقولون بالرغم من جودة ظاهر هذه الصفة الآخيرة، كما لا يَستحسن أحدٌ أن يُقال عنه أنه " أطرش في الزفّة " لأن في ذلك إهانة لمكانته التي يضعها لنفسه وفيه تقليلٌ من ذكائه، وفطنته، ونباهته، ووعيه أيضاً، إضافة لما ينطوي عليه ذلك " النّعت " من تهميشٍ لدوره المؤثر في الأحداث التي تدور من حوله سواءً في بيئة العمل، أو في المجتمع، أو حتى في داخل محيط دائرته الإجتماعية الضيقة سواءً كانت العائلة، أو الجماعة النفسية الإجتماعية التي ينتمي إليها.
ولكن الأمر يختلف تماماً عندما يصفك أحدٌ ما بأنك " تتغافل، أو تتغاضى، أو تتغابى، أو تترفّع، أو تستهبل،أو تستحمر، أو تستعبط، أو تِستَحْوِن - أعزكم الله - أو غيرها من المصطلحات الأخرى المشابهة والرائجة في بعض الأقطار العربية والأجنبية، كما أخبرني به بعضٌ من أهلها، والمترددين عليها، وأعتذر عن عدم ذكرها مراعاة للذوق العام مع خالص إحترامي للجميع.
فالنّعت هنا له دلالة مؤكدة على الذكاء، والفطنة، والوعي التام بما يدور حولك من أحداث، ووقوعات، وإنك لست " أطرش في الزفّة " بل إنك قرّرت التجاهل، والتغافل، والتغابي، وغض البصر عن تلك الأحداث بكامل إرادتك وحريتك لأسباب تؤمن بها دون غيرك، من أجل الحفاظ على سلامك الداخلي وعدم السماح للبيئة الخارجية أن تلوِّث ذاتك التوّاقة للشعور بالأمان، والترفُّع عن الإنجرار وراء كل زاعق، وناهق، ومارق ممّا لا يتوافق مع منظومة قيَمِك الأخلاقية من هنا أو هناك.
إذاً " الإستحمار " في هذا السياق معناه " الحكمة، والتعقُّل، والترفع عن صغائر الأمور"وليس تغييب الوعي، وكما ورد في المنطق البليغ " تسعة أعشار الحكمة في التغافل " كما أن عميق الفكر وراسخ الوعي هو ذلك " الكيِّس الفَطِنْ " الذي يعلم بما يدور حوله، ولكنه يتظاهر للآخرين بأنه الحاضر الغائب الذي لا يعلم ببواطن الأمور، بينما هو في قرارة نفسه يعلم جيداً بأنهم هم المغفلون، اللاّهون في جمع المنافع، والمصالح، وامسكْ لي وأقطعْ لكْ، والضحك على الذقون ما استطاعوا لذلك سبيلا، وتراهُ يردِّد بينه وبين نفسه قول الشاعر : " ليس الغبي سيدٌ في قومهِ *** لكن سيد قومه المتغابي " وكما قال لي أحدهم :" هم يضحكون علي لأنني لا أشبههم، وأنا أضحك عليهم في داخلي لأنني مُختلف عنهم ".
نعم - أيها القارئ الكريم – ربما أنك تعاني من ضجيج وإصرار صوتك الداخلي الذي يدفعك بجنون بأن لا تكون " الطوفة الهبيطة " في حاضنتك الإجتماعية التي يسهل تجاوزها والقفز عليها بكل يُسرٍ وسهولة، وأن تتصدى لكل من يحاول أن يبني مجدهُ على أنقاضك، ويُقلّل من شأنك، ويُهدِّد وجودك، ويُهمّش دائرة تأثيرك، ويُحوّلك إلى كتلةٍ من ركام.
عليك أن تتجاهل هذا " الصوت المدمِّر " مهما كان شجياً، ومؤثراً، وضاغطاً، وحنوناً.
أخبره بوضوحٍ تام بأنك على علمٍ أكيد بكل ما يجري من حولك، وإن تساهلك في إستغلال البعض" لسياسة التجنب " لديك إنما يتم تحت نظرك الثاقب، ورؤيتك الفاحصة للأمور، وإنك " تحتملُ مضرة يومك لمسرةِ غدك " أخبره بشيءٍ من الحزم أنك لست كما يعتقد بأنك " طيّب دون بصيرة، أو مُساير من غير عِلْمْ " قل له : بأنك تترفع عن توافه الأمور، وإنك تتعاطى مع البيئة الخارجية من خلال منظومة قيمك الداخلية، ولا تحكمك دائرة الفعل ورد الفعل، وإنك عندما تسمو فوق " الأشياء " مهما كانت مُغرية وجذّابة، لا يعني ذلك بأنك النقطة الأضعف في الحشد المتكالب على عفن الدنيا، بل لأنك تدرك قيمتها الهامشيّة، وتعرف نقطة الإنكسار، وتؤمن بنظام الغيْبِيّات، ولهذا أنت مُختلفٌ عنهم.
فهل أدركت من أنت ؟