أنصفوا خصومكم (1)
الخصومة قد تقع بين شخصين أو قبيلتين أو طائفتين تنتميان لدين واحد أو دينين مختلفين، بل حتى داخل المذهب الواحد والمدرسة الواحدة والاتجاه الفكري الواحد أو الانتماء الواحد بكافة أشكاله.
هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان لشهادة الوجدان عليها في حياتنا اليومية.
وتشكل الخصومة واحدا من أصدق المعايير في اكتشاف مدى التزام أصحابها بالموضوعية والعدالة والنزاهة. فغالبا ما يميل كل طرف إلى اتخاذ سلسلة من المواقف والإجراءات التي تسلب من الآخر كل فضيلة، وربما – كما في حالة الخصومة الفاجرة - تنسب إليه كل رذيلة.
قد تبدأ تلك السلسلة بمحاولات الحط من شأن الآخر والتقليل من قدره وقيمته، لتطال كل ما يتعلق به من أفكار واعتقادات وأشياء، وصولا إلى تصديق كل ما يقال عنه من مساوئ من قبل خصومه الآخرين دون أدنى تحقيق، بلوغا إلى القطيعة التامة معه، والاقتصار على معرفته من خلال خصومه فقط والذين لا يألون جهدا في تشويه صورته.
ربما يكون هذا الأسلوب مريحا للنفس لأنه يساير أهواءها، ولا يكلفها عناء البحث والتثبت والتبين والفرملة وكبح الجماح. ولكنه في الواقع من أفتك الأساليب بالعقل والشخصية السوية، حيث يتحول الإنسان إلى مجرد صدى يردد مقولات الآخرين من غير فحص ودراية.
وبقليل من التتبع لحالات الخصومة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نجد استشراء فاحشا لهذه الظاهرة حتى في الأوساط الأكاديمية وشبه الأكاديمية، فإنصاف الخصم مفقود، والتحامل بكل صوره موجود، والعقل في تراب التعصب مدسوس موؤود.
فكثير من البحوث التاريخية والعقائدية تنحدر نحو منزلقات التوهين والتضعيف والتسقيط عند تعرضها لأشخاص الآخر أو اعتقاداته أو مواقفه، لا لشيء إلا لأنه آخر.
بل الأدهى والأمَر أن تلك البحوث تبدأ بأحكام جاهزة ونتائج ناجزة، ولا تقرأ الآخر من تراثه أو من واقعه، فلا تأتي أبدا بجديد، بل تُكتب لتأكيد قناعات موروثة، فكأنها ليست بحوثا أصلا لأنها تخلو من أي إضافة معرفية حقيقية.
ولا يقف عدم إنصاف الخصم عند هذه الحدود بل يتعداها أحيانا إلى سلب حقوقه المشروعة من دينية ومدنية وسياسية حتى تصل النوبة في أقصى مدياتها المتطرفة إلى استباحة دمه وعرضه وماله بعد تهيئة المقدمات المناسبة التي تفضي إلى النتائج المتوخاة أصلا.
ونظرا لخطورة هذا الأمر وصعوبة التمسك بالضوابط الأخلاقية والشرعية عند احتدام الخصومة، نرى القرآن الكريم يؤكد على ذلك أشد تأكيد في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾.
يعلق صاحب تفسير (في ظلال القرآن) على هذه الآية قائلا: لقد نهى اللّه الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام، على الاعتداء (أي في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا). وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم اللّه إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم.
فهاهم أولاء يُنهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق.
فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره و البغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء.
فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين!
إننا اليوم أحوج ما نكون في ظل ما نشهده من استقطاب طائفي حاد، ومن صراعات بينية على أكثر من صعيد إلى استحضار تلك القيمة المغيبة أي العدالة في جميع سلوكياتنا الفكرية والعملية.
ولن يتم ذلك إلا من خلال تغليب لغة العقل على نعيق التحريض والاتهام والشتائم.