جنبلاط و أبطحي: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن!
قامت شخصيتان في المنطقة بخطوة تراجعية وجريئة عن مساريهما، في لحظة، كما يحسبها البعض، مباغتة ومفاجئة. خروج الزعيم اللبناني وليد جنبلاط بيك عن سرب 14 آذار في مرحلة المخاض الأخير لتشكيل الحكومة، وانقلاب محمد علي أبطحي على تياره الإصلاحي في مرحلة حساسة ومتقدمة من الصراع بين المحافظين والإصلاحيين! وهما صورتان لحالات مشابهة تقفز بين فينة وأخرى في المنطقة.
لم نتعود في منطقتنا العربية والإسلامية على انقلاب الأشخاص قدر ما تعودنا على انقلاب الأحداث في أغلب الأحايين وانقلاب مواقف الدول باستمرار.
لذلك يخضع تحول الأفراد في الشرق للتأويلات المتباينة كتباين الليل والنهار أكبر مما تأخذه تحولات الأحداث ومواقف الدول من التحليل الموضوعي. يعود بعض ذلك لطبيعة غالبة على إنسان المشرق في ميله نحو شخصنة المواضيع فلا تأخذ النسبة الحيادية المطلوبة منها عند قراءة تحول الأشخاص أو انقلابهم.
تحول أو انقلاب الأشخاص تارة يكون انتقالا من ضفة إلى أخرى، وتارة يكون عودة إلى أصل كان يعيشه المرء لفترة طويلة، ضامرا في وجدانه، بين تلقي الفكرة وتخمرها في وجدانه ثم التدرج نحو الإيمان والعمل بها. لذا غالبا ما يكون هذا التحول عاديا وطبيعيا وهادئا، ويعبر عن مراجعة لمكونات الذات بشكل عميق، بينما يصبح التحول صارخا ومدويا عندما يقع الإعلان عنه في لحظة حاسمة وفي منعطفات خطيرة كما هو الحال في لبنان وإيران.
تغير القناعات وتبدلها ليس عيبا أو شذوذا أو انحرافا، عند الأشخاص، ما دام ينطلق من قواعد منطقية، وينبني على مراجعات متأنية، ويصب في فضاء البحث عن الأحسن من المسارات وغايته الوصول للأفضل من القرارات، لاسيما إذا امتاز التغير بالنقد الذاتي المتوازن، بمعنى عدم انبثاقه من جلد الذات، أو يكون النقد مبعثه الشعور بالهزيمة أو النصر. وهنا يكمن الفرق في تحديد الثبات والتحول عند الشخصيات السياسية: أهي مراجعة للذات أم إعادة تموضع للمواقف بسبب تبدل الظروف والمعطيات الجارية؟.
فالأمر يختلف في السياسة عما هو عليه الحال عند المؤمنين بالفلسفة الانقلابية التي تقول بأن هذه الكائنات سيل يستمر ويندفع من الأزل إلى آخر الأبد، والإنسان في هذا السيل كدقائق العيدان يقذفها ويمضي بها، وهو في ذلك جاهل لا يدري من أين أتى ولا إلى أين يذهب...جميع العناصر في تركب وانحلال دائم، الأجزاء البسيطة التي تتركب منها مادة الموجودات هي دائما في تجمع وتفرق، فالإنسان الذي يموت وتودع جثته في بطن الثرى، ذلك المعمل الكبير الذي نسميه (الطبيعة)، تنحل عناصره وتتبعثر، كما يؤمن بذلك عمر الخيام مثلا. الانقلاب، هنا، في مطلق الوجودات لا في المواقف السياسية التي بتراكمها المستمر يتبلور مسار الإنسان في الحياة وتعرف شخصيته بها..
ولكن كيف يمكن التمييز بين الثبات على الثابت والتحول عن المتغير؟ وهنا، تبرز مشكلة تحديد من هو الأصح في تشخيص الوضع واحتساب ذاك ثابتا والآخر متغيرا ؟.
لذلك لا يمكن اعتبار ما جاء من تحول أبطحي و انقلاب جنبلاط على أنها مراجعات نقدية بقدر ما يمكن اعتبارها مواقف سياسية فرضتها الظروف المحيطة بكل منهما، ونابعة من قدرتهما على التلون السياسي وفق قراءتهما لظروف بلديهما، فهي ليست مراجعة بقدر ما هي إعادة تموضع داخل اللعبة السياسية ضمن سياسة دوائر الاستقطابات والاستقطابات المضادة بين الفرقاء في الساحتين، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات المرافقة لحالة أبطحي المعتقل وحالة جنبلاط المتقلب.