الثُّقبُ .. الكاتب الأستاذ محمد الحميدي

«1»

الإنسان في الحياة، يعيش ضمن مجموعة ثقوب؛ التغيرات، التحولات، الظواهر، تمثل مفاصل هامة في المسيرة الإنسانية.

الحياة، الموت، التغيّرات الإنسانية، تمرّ بمرحلة الثقب، من أجل توضيح ذلك، نستعين بالمثال التالي؛ الذي يبيّن كيفية اشتغال الثقب في الحياة:

قبل ولادة الفرد، يكون جنينًا متكورًا في رحم الأمّ، يتمّ عبوره إلى الحياة، عن طريق الثقب الموجود، تمضي السنوات، ينتقل من مرحلة عمرية إلى أخرى؛ عابرًا الطفولة، المراهقة، الرجولة، الكهولة، الشيخوخة، يلبث قليلاً، ثم ينتقل إلى الموت.

الآن، لنحلّل المثال المضروب:

لدينا عددٌ من الثقوب، أكتفي بثلاثة منها؛ لوضوحها:

1. انتقال الوليد من رحم الأمّ إلى الحياة: حيث يمرّ عبر الثقب الحقيقي، ثقب الأمّ، الذي يعمل على الفصل بين حياتين؛ الأولى داخل الأمّ، الثانية خارجها.

يشتمل العبور على تغيّرات جسدية فسيولوجية، تحدث للطفل، بعد كونه متصلاً بالأمّ؛ معتمدًا عليها في البقاء والاستمرار، انتقل إلى مرحلة الاعتماد على نفسه، انفصل عنها، امتلك كيانًا مستقلًّا.

2. انتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى: يكتسي الثقب تجريدًا أكثر في هذه المرحلة، لا يكون منظورًا، التغيّرات الفسيولوجية تدلّ عليه.

3. انتقال من الحياة إلى الموت: يكتسب الثقب صفته التجريدية التامة؛ يحدث الانتقال إلى حياة جديدة، إلى الموت، تظل ملامح الفرد الميت دون تغيير.

نصل إلى الاستنتاجات التالية، بعد تحليل المثال:

1. الثقب يمثل مرحلة عبور، إما بين حسّيين، مثلما هو الحال في انتقال الجنين؛ من داخل الرحم إلى خارجه، أو بين معنويين، مثل الانتقال من الحياة إلى الموت.

2. اختلاف مراحل العبور؛ أحيانًا تكون قويّة صعبة، في أحيان أخرى تكون سهلة.

3. وضوح تأثيرات الانتقال على العابر؛ الثقب يكون بين مرحلتين مختلفتين، مرحلة الحياة ومرحلة الموت مثلاً، أو بين مرحلة ما قبل الولادة ومرحلة ما بعدها، أو بين مرحلة الطفولة ومرحلة المراهقة.

4. تفاوت وضوح تأثيرات العبور على العابر؛ ربما الانتقال من المرحلة الجنينية إلى المرحلة التي تليها يتسم بالوضوح، لكنّ عملية الانتقال بين المراحل العمرية المختلفة، لا تكون بمثل ذلك الوضوح، يختفي الوضوح حين الانتقال من الحياة إلى الموت؛ لا تغيرات تحدث.

5. حقيقة الثقب؛ قد يكون الثقب حقيقيًّا، كثقب الأمّ، أو شبه حقيقيّ، كثقب المراحل العمرية، أو وهميًّا، كثقب الموت.

في النقطة القادمة، سنعمد إلى تعريف الثقب، مع ذكر أبرز الخصائص التي تميّزه.

«2»

للثقب لغتان؛ بالفتح والضمّ، ف «الثَّقْبُ» يجمع على «الثُّقُوب»، كما يجمع على «الثُّقُب» أيضًا[1] .

الثاقب في الآية القرآنية ”والنّجم الثاقب“، هو الذي يصل نوره إلى السموات كلّها[2] .

«الثُّقْبَةُ» ما يوضع في النار؛ ليزيد في اشتعالها، ويقال له «الثَّقُوب» أو «الثِّقَاب» [3] .

«الأُثْقُوب» هو الرجل الدّخال في الأمور، وثَقَبْتُ الشيء أَثْقُبه ثَقْبًا، إذا أنفذته، ولا يكون الثَّقْبُ إلّا نافذًا[4] .

في معجم العين للخليل بن أحمد «139: 5»: الثَّقبُ مصدر، وهو اسمٌ لما نَفَذَ، أي إن كلّ شيءٍ يتمتّع بخاصّية النفاذ والعبور يسمّى الثّقب.

الثُّقُوب مصدر النار والتلألؤ[5] ، يقال للرجل ثقيب والمرأة ثقيبة؛ إذا كانا شديدي الحمرة.

«المِثْقَب»: ما يثقب به[6] .

«الثقب» بالفتح، قيل هو مقابل الشّق[7] .

أيضًا، من المجاز قولهم «المَثْقَبُ» وهو الطريق العظيم يثقبه الناس بوطء أقدامهم[8] .

تعمل معاجم اللغة على تناول لفظة «ثَقَبَ» بنطقيها المفتوح والمضموم؛ تارة تأتي «الثَّقب» وأخرى تأتي «الثُّقب».

رغم اختلاف النطق بين الكلمتين، تأتيان في معانٍ مشتركة؛ تدور حول: عيدان الثقاب؛ التي توضع في النار، لتزيد في اشتعالها.

أو تأتي للإضاءة والتلألؤ؛ مثل قوله تعالى: «والنّجم الثاقب»، الثاقب: الذي يضيء السموات بنوره.

تأتي أحيانًا - بعد تصريفها - بمعنى الشِّقِّ؛ نقول: درٌ مثقوب؛ أي تمّ ثقبه، أو وجد فيه ثقب.

نستنتج مما سبق، خاصيّتين للثقب؛ هما النفاذ والإضاءة، حيث يعمل الثقب على النفاذ؛ ليضيء.

يؤيد ابن دريد في الجمهرة ما وصلنا إليه، حينما يقول: ولا يكون الثَّقب إلا نافذًا.

نواصل عملية استقصاء دلالات الثقب؛ نجده يتمتّع بخاصّية التغيير والانتقال، كعيدان الحطب التي توضع في النار، تسمّى: الثَّقبة والثُّقوب والثَّقوب، تعمل على اشتعال النار من وضع أضعف إلى وضع أقوى؛ تزيد في اشتعالها.

الخاصية الثالثة؛ تتمثل في القيام بعملية التغيير والانتقال؛ حيث يتم الانتقال من وضع أضعف إلى وضع أقوى، من حالة ضعف إلى حالة قوة.

الخاصية الرابعة؛ نأخذها من كلمة «الأُثْقُوب» وهو الرجل الدَّخال في الأمور؛ يعمل الثقب على الدخول في الأشياء، ليس النفاذ والإضاءة والانتقال فقط.

***

لتطبيق خصائص الثقب، ولمعرفة أثرها؛ نستعيد المثال المتعلّق بالفرد من بداية كونه جنينًا إلى نهاية حياته وموته.

يبدأ الطفل في الخروج من رحم أمّه عبر الثقب «الحقيقي»؛ يشاهد ضوء الدنيا بعد ظلام الرحم، هذا الخروج يعدّ انتقالاً من وضع سابق إلى وضع لاحق.

الوضع السابق يمثل حالة ضعف؛ الجنين لا حول له ولا قوة، يكون مفعولًا به لا فاعلًا، بينما في الوضع اللاحق يمثل حالة قوة؛ يبدأ في التعلّم، واكتساب المهارات، التي تساعده في الاعتماد على نفسه، يصبح فاعلًا لا مفعولًا به.

حينما يخرج الطفل إلى الحياة الواقعية، تبدأ عملية تدخّله بها، لا يكتفي بدور المفعول به، يتحوّل إلى فاعل، هذا ما تشير إليه عملية الدخول ”الدّخال في الأمور“.

***

للآن، تناولنا الثقب بمظهره الطبيعي، نفترض سؤالًا: هل للثقب شكل صناعي؟ أي؛ هل يستطيع الفرد عمل الثقوب؟ هذا ما سنبحثه في النقطة الموالية.

«3»

الخواصّ الأربع للثقب، تتمثل في الآتي:

1. النّفاذ «ابن دريد: ولا يكون الثقب إلا نافذًا».

2. الإضاءة «الخليل: والثُّقُوب مصدر النار والتلألؤ».

3. الانتقال «الزبيدي: المَثْقَب، وهو الطريق العظيم يثقبه الناس بوطء أقدامهم، وكذلك الخليل: ورجل ثقيب وامرأة ثقيبة: شديدة الحمرة».

4. الدّخول «ابن دريد: والأثقوب: هو الرجل الدّخال في الأمور».

الخصائص السابقة، ليست صادقة تمامًا، النفاذ لا يلزم الإضاءة دائمًا، ربما أدى إلى الظّلمة، كذلك الانتقال، قد لا يكون للأقوى، إنما للأضعف.

أيضًا، الدخول ”الدّخال في الأمور“ ربما ينتفي؛ يظل في حالة المفعولية، لا يصبح فاعلًا في الوضع الجديد.

خاصية النفاذ، هي الوحيدة؛ التي يمكن الجزم بحدوثها، لا يمكن للثقب أن يوجد إلا إذا توفرت خاصية النفاذ، بدونها؛ لا يصبح ثقبًا.

لتوضيح الصورة أكثر، نستعيد المثال السابق؛ المتعلق بالانتقال من الحياة إلى الموت.

حينما ينتقل الفرد عبر الثقب ”الوهمي“؛ من الحياة إلى الموت، ليس شرطًا أن يجد الضوء، ربما وجد الظلام، سيحدث الانتقال لصالح الأضعف، بعد كونه فاعلاً في الحياة، صار مفعولاً به بعد الموت، بات ”الدخال في الأمور“، يُتدخّل في أموره، دون القدرة على فعل شيء.

من المثال، أثبتنا خاصّية النفاذ، وهي الخاصّية الملازمة للثقب، كما ألغينا بقية الخواصّ؛ لوجود معارضة ألغتها، أبدلتها بنقيضها.

نصل إلى الاستنتاج التالي:

ثمة ثلاث خصائص، ليست ثابتة للثقب، بل ربما تحوّلت إلى النقيض، بينما خاصّية النفاذ، تظل ثابتة، لا يجوز إبعادها.

الخصائص المتناقضة، تثبت للثقب مجموعة أخرى من الخصائص، يصبح مجموعها كالتالي:

1. خاصّية رئيسة لا تتبدّل؛ هي خاصّية النفاذ.

تليها مجموعة من الخصائص المتناقضة:

1. الإضاءة. 1. الظلمة.

2. الانتقال للأقوى. 2. الانتقال للأضعف.

3. الدّخول ”الفاعل“. 3. الدّخول ”المفعول به“.

***

نواصل حديثنا، بعد إثبات ثلاث خصائص إضافية؛ ليكون المجموع سبع خصائص.

***

ننتقل للإجابة عن السؤال الذي وضعناه سابقًا: هل للثقب شكل صناعي؟

المثال المضروب، تناول حياة الفرد، منذ المرحلة الجنينية إلى المرحلة المنتهية بالموت؛ استخرجنا ثلاثة ثقوب منها.

بالطبع، نستطيع تطبيق المثال على حيوات الكائنات الأخرى، دونما تغيير.

الثقوب «في المثال المضروب» أوجدتها القوة الفاعلة في الكون؛ التي يُرمز لها باسم ”الله“.

حينما تنتقل القوة الفاعلة من يد ”الله“ إلى يد الإنسان، تأخذ الثقوب طابعًا صناعيًّا؛ يعمل الإنسان على إيجادها.

ثمة أمثلة عديدة للثقوب الصناعية؛ السدود التي تنشأ؛ لغرض حفظ المياه، تعتبر ثقبًا.

كذلك التأثير في الآخرين، باستخدام السلطة والنفوذ، يعتبر هذا العمل ثقبًا، أو كما يسمّى: ”الأثقوب“؛ أو ”الرجل الدّخال في الأمور“.

لنأخذ مثالاً أكثر دقّةً:

خلية النحل التي يُنشئها الإنسان، تعتبر من الثقوب، حينما يقوم بنقل «الملكة» إلى الخلية الجديدة؛ ينقلها من ظلام الخلية الأولى، إلى ظلام الخلية الثانية، يترك للخلية الثانية ثقبًا؛ لدخول النحل وخروجه.

من المثال نستخرج خصائص الثقب؛ أوّلاً: نفاذ ملكة النحل إلى الخلية الجديدة، تم صناعيًّا، ليس طبيعيًّا.

ثانيًا: الظلمة؛ حيث انتقال ملكة النحل من ظلمة الخلية الأولى إلى ظلمة الخلية الثانية.

ثالثًا: الانتقال من خلية إلى أخرى؛ يكون النحل قويًّا في الخلية الأولى، بينما يميل إلى الضعف في الخلية الثانية.

رابعًا: الدّخول ”المفعول به“؛ حينما ينتقل النحل إلى الخلية الجديدة، ثمة تغيّر يطرأُ عليه، يدعم فرضية انتقاله للأضعف.

استنتاج:

الانتقال الطبيعي يختلف عن الانتقال الصناعي، تحدث التغيّرات في الانتقال الطبيعيّ بين مستويين؛ القوة / الضعف، الظلمة / الضوء، الدخول ”الفاعل“ / الدخول ”المفعول به“.

في الانتقال الصناعي، يختلف الأمر؛ حيث يحدث بين مستويين متماثلين، الظلمة / الظلمة، الانتقال للأقوى / الانتقال للأقوى، الدخول ”المفعول به“ / الدخول ”المفعول به“.

تظل خاصّية النفاذ؛ العنصر الملازم لعملية الثقب، لا تتم إلا من خلاله.

***

بعد استعراضنا لمجموعتي الخصائص الطبيعية والصناعية للثقب، يأتي السؤال التالي: هل يتمتّع الثقب بنظرية لقراءة المجتمع الإنساني؟ وهو ما سنجيب عنه في النقطة القادمة.

«4»

سوف نعمل على تقديم نظرية الثقب، كالآتي:

للنظرية أربعة محاور: الإنسان، المجتمع، الكون، الوهم.

لهذه المحاور اتصالات مع بعضها؛ الإنسان متصل بالكون والمجتمع والوهم، كذلك المجتمع متصل بالإنسان والكون والوهم.

الكون متصل بالإنسان والمجتمع، كذلك الوهم؛ متصل بالإنسان والمجتمع فقط.

* الإنسان، يُقصد به الفرد الواحد.

* المجتمع، يُقصد به مجموعة من الأفراد، تربطهم علاقات مشتركة.

* الكون؛ يمثل مجمل العلاقات الحقيقية، التي تنشأ بين الأشياء أو الكائنات.

* الوهم؛ يمثل مجمل العلاقات الخيالية، التي تنشأ بين الأشياء أو الكائنات.

سوف نبدأ بالحديث حول العلاقات بين المحاور، قبل الحديث عن الثقب.

أولاً: الإنسان متصل بالمجتمع؛ بسبب كونه فردًا من أفراده، ينتمي إليه، يتلقّى فيه تعاليمه الأولى، عاداته، مكتسباته الثقافية والمعرفية.

للفرد علاقات أوثق بالمجتمع، لا يكفي مجرّد الانتماء، لا بدّ من الدخول في عملية تفاعل، التفاعل يتّخذ شكلين؛ هما:

1. التفاعل الإيجابي؛ حيث يعمل على المحافظة على مكتسباته الثقافية والمعرفية، وتطويرها إن أمكن.

2. التفاعل السلبي؛ حيث يعمل على هدم المكتسبات الثقافية والمعرفية، ومحاولة إيجاد البديل.

لهذين الشكلين في تفاعلهما مع الفرد طريقين مختلفين؛ إمَّا أن يتمّ التفاعل عن طريق العمليات الكونية الطبيعية، حيث تتمّ ”المحافظة / الهدم“؛ عن طريق السبب المؤدّي إلى النتيجة، يتميّز التفاعل والتعامل هنا بالواقعية؛ تغيّر السبب يؤدّي إلى تغيّر النتيجة.

أو أن يتمّ التفاعل عن طريق العمليات الوهمية الخيالية، يلجأ الفرد على نشر البلبلة والفوضى ضدّ شيء معيّن؛ كي يتمّ تغييره، اللجوء إلى الوهم، يعني اللجوء إلى الطاقات الأدبية الإبداعية في الغالب.

ثمّة طريق ثالث، يجمع بين التفاعل الكوني والتفاعل الوهمي؛ يجمعهما في بقعة واحدة، ربما جاز أن نطلق عليه مصطلح ”الكوهمي“؛ حيث يعمل الفرد على تسخير الأسباب الطبيعية المتصلة بالواقع، والأسباب الوهمية المتصلة بالأدب، من أجل عملية ”المحافظة / الهدم“ للمكتسبات الثقافية والإرثية المتنوّعة.

ثانيًا: المجتمع متّصل بالإنسان؛ بالفرد، يعمل على سنّ القوانين، لتنظيم الحياة والتعامل، أيضًا، يلتزم بالمحافظة على القيم المكتسبة، والإرث الناتج عن الماضي.

يستعمل المجتمع أداتين؛ لإخضاع الفرد إلى سلطته، تتمثّل الأولى في الترهيب والتهديد ومصادرة الحرّيات، أو في الترغيب؛ عبر تقديم الامتيازات إلى الناشطين، يشار إلى هذه الأداة باعتبارها الأداة الكونية الطبيعية، القائمة على «السنن» السبب الواقعي.

الثانية تتمثّل في استثمار الطاقات والمواهب الأدبية، في عمليات الترغيب والترهيب، يمكن أن نطلق على هذه الأداة؛ الأداة الوهمية، القائمة على «السنن» السبب الخيالي.

ربما استعمل المجتمع الأداتين في ذات الوقت، لا تعارض بينهما، تُجمع الأداتان في واحدة هي ”الكوهمي“، نسبة إلى الكون والوهم.

ثالثًا: الكون في نظرية الثقب، يُقصد به؛ الأسباب والعوامل الطبيعية لحدوث الأشياء.

الكون يتصل بالمجتمع من ناحية الأسباب الطبيعية، كذلك يتصل بالفرد من ذات الناحية، لكنه لا يتصل بالوهم؛ لا يتقاطع معه، الكون يضادّ الوهم، يقعان على طرفي نقيض.

تندرج العلوم والمعارف التطبيقية التجريبية ضمن المحور الكوني؛ السبب عائد إلى كونها تمارس مخاطبة العقل، تسير نحو الوجهة الواقعية.

الثقب الكوني متّسع باتّساع القطب الجنوبي، ثقب الأوزون الموجود هناك، يعتبر نتيجة طبيعية لتطوّر الصناعة في البلدان المتقدّمة، كأن الكون يعاقبنا على التطوّر العلمي، بإحداث ثقب، تطلّ الشمس من خلاله على الأرض، دون غطاء.

حينما نتحدّث عن ثقب الأوزون؛ نتحدّث عن سبب طبيعي أدّى إلى نتيجة طبيعية، أو بمنظور نظرية الثقب؛ أدّى سبب كوني إلى نتيجة كونية.

إجمالًا: الكون يشتمل على الأسباب الطبيعية، المؤدّية إلى حدوث نتائج.

كما أن ذرّات غاز الفريون تستعمل في التبريد، كذلك تستعمل في إتلاف الغلاف الجوّي للأرض؛ حيث تعمل ذرّة فريون واحدة على تفكيك اجتماع ثلاث ذرّات أكسجين؛ مما يودّي إلى إحداث ثقب في الغلاف الجوّي.

رابعًا: الوهم يتّصل بالمجتمع والفرد، لكنه لا يتّصل بالكون؛ السبب يعود إلى طبيعة الأسلوب الخيالي، الذي ينتهجه الوهم.

نجد المحور الكوني في الواقع المعاش؛ الطبيعي من الأشياء، نجده كذلك في الكتب العلمية التطبيقية التجريبية.

بينما الوهمي نجده في الكتابات الأدبية والفكرية؛ حيث يتمثّل في الفكر أوّلاً، قبل تحوّله إلى واقع كتابي.

حينما نبحث في أصل المعتقدات القديمة؛ كمعتقدات الإغريق في آلهتهم، ومعتقدات الهنود والصينيين والتبتيين، في أصل الديانتين البوذية والكونفوشية، لن نعثر على سبب واضح أدّى لنشأتهما.

الإشكال ذاته يتبادر إلى الذهن مع الاقتراب من الأساطير البدائية؛ التي لا يزال يتمسّك بها البعض.

أساطير مثل تموز، عشتار، أخيل ”الإلياذة“، من الصعب التكهّن بكيفيّة وصولها إلى عقل الفرد.

يبدو الثقب في غاية الاتّساع بين الأساطير ونشأتها، لكن ذلك، لا يلغي احتمالية وجود سبب طبيعي، الفرق يتمثل في كيفية النشوء، ومن ثمَّ، في انتشارها الواسع؛ مما أدّى لبروز معتقدات مختلفة لدى الشعوب في الزمن الغابر.

خلاصة: الوهم يخاطب العقل بصفته قادرًا على الفعل؛ حيث إن جميع الأعمال الأدبية تخاطب العقل، ليس العقل العملي التجريبي، إنما العقل الوهمي الخيالي، المبني على الخرافة.

***

بعد الحديث عن محاور النظرية، تبقى مسألة الثقب؛ الذي يتوسّط المحاور، سيكون موضوع حديثنا القادم.

«5»

الخاصّية الرئيسة للثقب، تتمثل في النفاذ، بينما تتوزّع الخواصّ الست الباقية بشكل متناقض؛ الضوء/ الظلام، الانتقال: للأقوى/ للأضعف، الدخول: الفاعل/ المفعول به.

الخواصّ السّت، تأتي ثلاث منها فقط، في كلّ عملية ثقبية.

الآن، لنطبّق نظرية الثقب، على حدث كوني، قبل الانتقال إلى حدث اجتماعي، أو أدبي.

من الأمور التي باتت تزعج الكثيرين، مسألة ثقب الأوزون؛ الثقب الذي جاء نتيجة تطور البشر، وثورتهم الصناعية.

حينما نبحث في أصل المشكلة نجدها كالآتي:

مركّب الأوزون يتكوّن من ثلاث ذرات أكسجين، تبقى الذّرات متصلة ببعضها في الغلاف الجوي العلوي، تعمل على منع الأشعة الكونية الضارة من الوصول إلى الأرض.

بسبب انبعاث غاز الفريون «كأحد نواتج العملية الصناعية»، تتفكّك ذرّات الأكسجين من شكلها الثلاثي إلى شكلها الثنائي والأحادي؛ تتقلّص طبقة الأوزون نتيجة انبعاث الغاز، يتم السماح للأشعة الكونية بالنفاذ.

الأشعة ليست ضارّة بالبشر فقط، مجمل الحياة الطبيعية على الكوكب تضرّرت منها.

تظل الأشعة داخل حدود الكرة الأرضية؛ يمنعها الغلاف الجوي من الخروج إلى الفضاء.

أيضًا، بسبب انبعاث الغازات الصناعية الأخرى؛ مثل دخان المصانع والسيارات، ترتفع درجة حرارة الأرض، تهدّد بذوبان الجليد في القطبين؛ الأمر الذي يؤدّي إلى إغراق المناطق المنخفضة عن سطح البحر.

***

نؤكّد مجدّدًا على خاصّية النفاذ؛ كونه المحور الرئيس في النظرية.

حدوث ثقب الأوزون، يعني دخول الأشعة الكونية الضارّة إلى الأرض، يكون الدخول ضوئيًّا، لكن الأشعة تنفصل عن الضوء، تبقى وحدها في ليل الأرض المظلم.

نفاذ الأشعة، وانتقالها من صورة ضوئية إلى شكل ظلامي، خاصّيتان من خصائص الثقب.

الأشعّة الضارّة، تنتقل للأقوى؛ تصبح مؤثرة وفاعلة في طبيعة الأرض، هذه هي الخاصّية الثالثة.

انتقال الأشعة للأقوى؛ جعلها فاعلاً، بعد أن كانت مفعولاً به في الشمس، هذه هي الخاصّية الرابعة.

هذه خصائص نظرية الثقب، بعد تطبيقها على ثقب الأوزون، لكن، هل نظرية الثقب، تنفع لقراءة الأحداث الاجتماعية؟

هذا ما سنتحدث عنه في النقطة القادمة.

«6»

لنتناول حدثًا اجتماعيًّا ضخمًا؛ كالثورة، كثورة الإيرانيين مثلًا، حيث استطاع الشعب الخروج من واقع اجتماعيّ ومعيشيّ وسياسيّ، إلى واقع اجتماعي ومعيشي وسياسي آخر.

الفكرة تبلورت في أذهان الكثيرين، إلا أن الخميني ”الإمام“ استطاع تحريكها، تحويلها من واقع خيالي ”وهمي“ إلى حقيقة واقعية ”كونية“.

حدثت الأمور بسرعة، استطاع فردٌ واحدٌ القيام بثورة ضدّ نظامٍ بأكمله؛ ليعبر بالأفراد ”المجتمع“ من ثقب التغيير، إلى حياة جديدة.

في البداية، ظلت الفكرة مجرّد وهم، تبلور في ذهن عددٍ قليل من الأفراد، ثم انتشر؛ ليعمّ أذهان الكثيرين.

عاش الوهم فترة ليست قصيرة في الأذهان، ثم بدأ في أخذ طابع الفعل، بعد الدعوة إلى قيام ثورة جماعية ”مجتمعية“ ضدّ نظام الشّاه.

تحقق الحلم ”الوهم“، صار حقيقة واقعة ”كونية“.

من الصعب الإلمام بزوايا الثورة الإيرانية وخباياها؛ كونها نتاج عمل تعبوي شعبي ضخم، استفزّ الشّاه، جعله يلقي الدبابات على الأفراد الثائرين.

كي نفهم نظرية الثقب بشكل أوضح، لا بُدّ من العودة إلى ما قبل الحدث الثوري، عمل الشاه على إبدال الثقافة الإسلامية بثقافة غربية، الأمر الذي شكّل ضغطًا على المجتمع المسلم.

لم يرضَ المسلمون الإيرانيون بما حدث، كون غالبية السكان؛ منتمين إلى الإسلام، حدثت الشرارة التي أشعلت نار الثورة، وفتحت الثقب؛ للتغيير.

النظرية تستلزم واقعين؛ واقع حاليّ موجود، وواقع سابق، تعمل على المقارنة بينهما؛ لاختيار أحدهما، من أجل أن تتمّ عملية النفاذ عبر الثقب.

لا ريب في كون الثقب الذي عبره الإيرانيون وهميًّا، لكنهم استطاعوا العودة عبره إلى حياتهم الأولى؛ المتصلة بالإسلام.

انتقالهم تم للأقوى؛ بعد كونهم ضعفاء أمام نظام الشّاه، صاروا أقوياء وفاعلين، خرجوا من حالة المفعولية إلى الفاعلية.

يوصف الإسلام بالنور والضياء، بينما الكفر واتّباع الطريق غير السّوي، يوصف بالظلام؛ تمّ انتقال الإيرانيين، من دورهم المظلم إلى دورهم المضيء.

يمكن تطبيق نظرية الثقب على الثورات المختلفة، قديمًا وحديثًا؛ ثورة الفرنسيين وتحطيم الباستيل، انتقال ونفاذ عبر الثقب.

كذلك ثورة المصريين بقيادة أحمد عرابي، وثورة ماوتسي تونغ في الصين، وثورة فيدل كاسترو في كوبا؛ جميعها عملت على النفاذ عبر الثقب، لتصل إلى ما وصلت إليه.

«7»

أدبيًّا، تتّسع الثقوب لتشمل جميع الموجودات، لأن الأدب بطبيعته يستلهم الأشياء؛ من أجل شعرنتها، وإعطائها زخمًا إضافيًّا من الوهم والأحلام والتطلعات المستقبلية.

نظرية الثقب - أدبيًّا - تتصلٌ بعملية التّناص؛ اللاحق يستلهم السابق، قد يلغيه، وقد يذوب فيه ويتماهى معه.

حينما نتحدّث عن الثقب الأدبيّ، لا يعني ذلك؛ تناول الوهم واستلهامه، والابتعاد عن الحقيقة الكونية الواقعية.

أشرت سابقًا إلى أن النفاذ الحاصل في الثقب؛ نفاذ وهمي، السبب يعود إلى وهمية الثقب ذاته.

القصيدة، القصة، التاريخ، العلوم الأخرى المتّصلة بالأدب؛ مثل السيمولوجيا، السوسيولوجيا، بل حتى الفسيولوجيا في جوانبها الأدبية؛ تدخل ضمن نطاق الوهم.

نظرية الثقب، لا تتغيّر خصائصها بتغيّر العلوم بالمتصلة بالأدب، بل ربما أحدثت العلوم المتصلة، نوعًا من التدخل الخلاق.

معلم لغة عربية