التعليم رسالة حب
في المرحلة المتوسطة، كنا ندرس مادة يسمونها الرسم الهندسي. ولأن اسمها يبدأ بكلمة «الرسم» فقد أوكلوا تدريسها إلى مدرس «الرسم» أو التربية الفنية حسب التسمية الحالية «المطورة». وهذا - كما يبدو - ليس بدعا في التعليم. فقد علمت لاحقا عندما كنت أدرس مادة المحاسبة في الجامعة من أستاذ المادة أنه حين عاد بشهادته العليا في المحاسبة، طلبوا منه أن يقوم بتدريس مادة الحساب. وعندما أخبرهم أن الحساب شيء والمحاسبة شيء آخر لم يقتنع الموظف بكلامه، ولم يقبل بكلام الخبير.
أعود للمرحلة المتوسطة وهذه المادة التي صرت أكرهها كره الأطفال لطبيب الأسنان. فذاكرتي حتى الآن لا تزال مرعوبة من منظر المدرس «الجثة» الذي انهال عليَّ بالضرب المبرح لسبب لم أعرفه إلا بعد أن شفى غليله ونشف زبده. ضربني لظنه أني تصرفت تصرفا خاطئا أثناء قيامه بالكتابة على السبورة، والحقيقة أني لم أفعل، وإنما كان الجاني الطالب الجالس بجواري. المهم أني تلقيت العقاب بدلا عنه، فكنت كما يقول ابن شرف القيرواني:
غيري جنى وأنا المعاقَبُ فيكمُ.. فكأنني سبّابةُ المُتندِّمِ
ما جرى لي جرى لغيري أيضا مع معلمين آخرين في مراحل دراسية مختلفة، وبالذات في الابتدائية والمتوسطة. وربما دفع ذلك بعضهم لتطليق مقاعد الدراسة ثلاثا لا رجعة فيها. وبرغم ما يُفترض من زيادة الوعي الحقوقي لدى الناس عموما، إلا أن هذا السلوك لا يزال يمارس، وللأسف الشديد، من قبل بعض المعلمين والمعلمات، في صورة عنف لفظي أو جسدي. عندما كتبت في «غوغل» عبارة «معلم يضرب» حصلت على العديد من النتائج المفزعة، من مثل: مدرس يضرب طلاب حلقة تحفيظ بسلك كهربائي، ”التربية“ تتحقق من مقطع فيديو لمعلم يضرب 13 طالباً، معلم يضرب طالبا ويصيبه برضوض متفرقة بجسده،... الخ.
مهما كانت المبررات التي يمكن أن يسوقها المعلم لاستخدامه العنف المفرط، فإن أساس اختياره لهذه المهنة كان خاطئا. وهذا مربط من مرابط فرس التعليم عندنا. فالمعلم لا يخضع لاختبارات نفسية لاكتشاف مدى أهليته للتعليم خصوصا في مراحل التعليم الأساسي، كما إنه لا يتم إلحاقه بعد ذلك بدورات تأهيلية إلزامية. ليس من الصحيح أبدا أن يكون التلاميذ محلا للتجارب وضربات الحظ. نعلم أن البعض اختار مهنة التعليم مدركا أنها رسالة قبل أن تكون وظيفة، وهؤلاء في الواقع هم المبدعون القادرون على تخريج أجيال لا تقل عنهم إبداعا. ولكن نعلم أيضا أن هناك من اختار التعليم مهنة بحثا عن الراتب الجيد والإجازات الأكثر والأطول والدوام الأقصر. والفرق بين هؤلاء وهؤلاء كبير جدا.
للذين يجسدون التعليم رسالة حب من معلمين ومعلمات نقول: كلمات الشكر لا تفيكم حقكم، فلكم منا كل التبجيل والتقدير.
وللآخرين نقول: من لا يتقن الحب لا يجيد التعليم. «والشاطر يفهم».
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا..