مهزلة النقاش الديني
- فلان: أنت على خطأ
- آخر: لا، بل أنت على خطأ
- فلان: ستدخل النار أيها الـ …
ثلاث جمل كافية لتلخيص أغلب النقاشات الدينية في الأوساط الإجتماعية والمنابر الإعلامية. الدين مادة دسمة، الجميع يتشربها.. وكلٌ يدلو بدلوه. النقاشات الدينية قد تبدأ بأصغر حكم فقهي حتى أكبر مفهوم عقائدي.. روادها الصغير قبل الكبير.. وأطرافها أضداد جمعهم حب إثبات امتلاك الحقيقة المطلقة والنجاة السرمدية. سُنيٌ هنا وشيعيٌ هناك.. كاثوليكي يتهجم على بروتساتني.. مسلمٌ يحاجج مسيحيا.. ومؤمن ينافح لا أدريًا.. والحلقات تصغر أو تكبر إلى ما شاء الله.
قد قطعت عهدًا على نفسي بأن لا أدخل في نقاشات ذات طابع مذهبي أو ديني لما وصلت له عبر التجربة من أن هذه النقاشات تتسم بعقم وسلبيات مستفيضة يُفترض أن ينأى عنها أي عاقل. وسأصوغ أسبابي على شكل نقاط.
لكيما يتصف نقاش بأنه نقاش فعال، فعليه أن يتصف بمقومات أهمها قابلية أطراف النقاش بالتخلي عن أفكارهم وآرائهم حالما يُبرهن على بطلانها. فالنقاش إذا كان بلا هدف فهو مجرد سفسطة وعناد وجدلية. إذا ما لاحظنا النقاشات الدينية المتفشية.. نجدها تفتقد أبسط مقومات الحوار.. تراشقات بالجملة.. وحساسية مفرطة.. تدل على أن كل طرف متمسك بموقفه مهما حدث. وهذا مرده طبيعة الأديان ذاتها.. فهي تنشئ أتباعًا معتقدين بأن دينهم هو المسلك الوحيد للنجاة وخلافه عذاب ووعيد. تخيل معي شخصا يتبع مذهبًا كالمذهب الشيعي على سبيل المثال - اخترته لمعرفتي به النابعة من انتمائي له - هذا الشيعي محكوم باتباع الأحكام الفقهية التي يمليها عليه مرجع تقليده إضافة إلى العقائد التي يتبناها مذهبه. أي مخالفة لهذين الثابتين قد تعني دخوله في إشكال شرعي أو حتى خروجه من دائرة الإسلام. في موقف كهذا، يتحتم عليه أن يتشبث بالطريق الأكثر ملاءمة وسلامة: الطريق الذي تربى على كونه صحيحًا منذ نعومة أظفاره. ثم تخيل هذا الشخص في نقاش ديني ولنقل مع آخر سني.. بطبيعة الحال سيكون منطلقه الدفاع المستميت عن معتقداته بلا أدنى قابلية للتخلي عن أي منها. وهذا ينطبق على أي طرف آخر غير الشيعي بنفس القدر. فعلى عكس الأفكار والمبادئ، المعتقدات والعبادات لا تحتمل التبديل والتشكيك حتى لا يُوقع بالمحظور. كلامي هذا لا أعني به أن معتقدًا ليس أصح من آخر أو أنه لا مجال لإثبات صحته عبر النقاش بالأدلة والبراهين، لكن مضمون كلامي أن غياب البحث الجدي وقابلية التغيير يؤدي بالضروة إلى فشل هكذا نقاش.
على عكس العلوم، الأديان لا تمتلك منهج ثابت للاحتكام به. لكل دين ومذهب منهجه الخاص، مصدر تشريعه الخاص، وطريقة استنباطه الخاصة. فما يلزم به غيري نفسه لا يلزمني بالضروة، والعكس صحيح. خذ الإنجيل كمثال.. من الطبيعي على المسيحي أن يؤمن بما جاء فيه، لكن من غير المعقول أن يدعوني - أنا المسلم - أن ألتزم بما ورد فيه لأنه ليس مصدر تشريعي للمسلمين. لكن ما نشهده من نقاشات في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي أن الأطراف تستدل بمالديها على ما يفعله الآخر. وقد يركب البعض الموجة ويبدأ بالسخرية من معتقدات الآخرين ويحكم بالضلالة عليهم فقط لأنه لايجد ما يشابهه في معتقده.. وهو لربما يزخر بما هو أدهى وأمر. وإذا ما أردنا إيجاد أرضية مشتركة، فعلى أحد الأطراف أن يقدم تنازلات تشوه كلية الحوار ولاتجعل المرء يستنطق حكمًا صائبًا.
قد يبهرك طالب هندسة كيميائية في أحد الجامعات عن كم المعلومات التي يحملها عن تخصصه.. المواد التي يدرسها والقطاع الذي سيعمل به مستقبلا وحاجة سوق العمل وفائدة التخصص وغيرها مما يتعلق بالهندسة الكيميائية. تبادر بسؤاله عن سبب التحاقه بهذا التخصص تحديدًا!! يعلل بأن هذا مافعله معظم طلاب دفعته وأصدقائه! حينها تصبح جميع المعلومات التي يحملها وتشجع موقفه مجرد قشور لا تغني عن اللب. النقاش يقوم بالإستدلال بالأمور المنطقية والعقلية.. فإن كان أساس تبني الشيء لا عقلاني فكيف يُبحث عن المنطقية في تفاصيله الجانبية. هذا يدل على أن آخر ما يبحث عنه هذا المناقش هو المنطقية. هل تعلم أن عدد الأديان حول العالم يقارب 4800 دين رئيسي. لكن لأن الإله يحبك فقد اختارك لتكون في الدين الصحيح الوحيد. أجل دينك - ولسبب ما - صادف أن يكون هو المسلك القويم، وهذا ليس كل شيء.. بل كل أدلتك ـ والتي ربما لا تعرف غيرها - هي براهين على صحة دينك وبطلان سائر الأديان الأخرى. ومذهبك وتيارك كذلك.. كم أنت محظوظ.. لقد اختارتك الجنة ولم تخترهم ـ الكفارـ. ومما يبعث على التندر أكثر أن يستعد أتباع كل ديانة ليرشقوا الأخرى بأقذع الأوصاف وكأنهم خلفاء الله في أرضه.
العلم يتمتع بقيود صارمة ليعتبر علمًا.. مع ذلك لا يصل علم من العلوم إلى درجة كاملة من التيقن
لأن العلم ينتهج المنهج المنطقي الاستقرائي «inductive reasoning» وليس المنهج الإستنباطي «detuctive reasonin»
بصورة أبسط فالمنهج الإستقرائي يعتمد على التجربة ثم تعميم نتائج التجربة على جميع الأشياء المشابهة للعينة.. وهذا يحتمل نسبة خطأ ضئيلة.. لنأخذ العبارة «الأجسام تسقط سقوطًا حرًا تحت تأثير الجاذبية الأرضية» هي عبارة صائبة ولكن قد تحتمل الخطأ في أي لحظة ولو بنسبة 000000.1% لأننا لم نجر التجربة على جميع الأجسام لنتحقق من صحة العبارة أو الإستنتاج
الأديان والتي تأتي في مرتبة متدينة في تصنيف العلوم، والبعض لا يعتبرها علمًا، تحتمل درجة تيقن أقل بكثير من العلوم الطبيعية.
فهي قائمة على الرواية التاريخية والتي يصعب التحقق من صحتها ويسهل التلاعب بها. حديث واحد موضوع قد يغير عقيدة بالكامل. فكيف تتأكد من صحة جميع الأحاديث. البعض يدرس علم الحديث والرجال وغيرها وتظل نسبة الخطأ كبيرة. أمر آخر أن معرفة الحقيقة لن تتم إلا بعد الحياة على رواية معظم الأديان. أي أن لا مصدر إلهي سيصحح أخطاءهم أثناء حياتهم.
وأخيرًا قانون الإحتمالات يدل على استحالة التيقن.. بصورة تجريدة.. لو حسبنا نسبة كون ديانتك هي الديانة المحقة.. فتكون النسبة 1/4800 قد يبدوا الأمر مبالغًا جدًا.. لنقتصر على الديانات التوحيدية.. لايزال العدد كبيرًأ.. فلنقتصر على الديانات الإبراهيمية.. ستصبح النسبة ⅓. ماذا لو أدخلنا المذاهب في العملية الحسابية؟؟ لك أن تتخيل مقدار النسبة الكلية.
من يتحدث بالدين.. يتحدث وكأن الله يخاطبه مباشرة.. ودائما ما أتساءل.. من أين لهم هذه الثقة.
مانتعبد به من عبادات ماهو إلا أحكام ظنية قد توافق أو قد لاتوافق الأحكام الواقعية.. أي أن عبادة كالصلاة في صورتها المعمول بها قد تختلف عن صورة الصلاة التي يريدها الله منا.
هل هذه النقاشات تقرب أيّ بعيد؟ أم تبعده أبعد مما كان؟
كنت أتحدث مع سيدة أمريكية عن نظرتي للمثلية الجنسية بأنها مرض نفسي.. فاشتظت غضبًا لأن أخاها مثلي الجنس.
حاولت شرح فكرتي عبر الإستناد على مقالات علمية، لكنها أبت ألإصغاء وطلبت مني التوقف لأن الأمر لا يحتمل المزيد. فهي جزء من الموضوع ورأيي يمثل إهانة بطريقة أو بأخرى. هو الحال أيضًا بشأن الأديان.. فكل دين مركزي وينظر لبقية الأديان على أنها كفر وفي أحسن الأحوال أنها ضلال وابتداع. وقلة من الأديان اتسعت للكل. حينما يبتدئ النقاش وتكون هذه الفكرة عن الآخر حاضرة مسبقًا، فلن تمض ثوان حتى تظهر على السطح من خلال زلة لسان أو جواب صريح حول نظرة معتقد لآخر. هل سيتقبل الفرد التعدي على مقدساته أو تسقيط اعتقاداته.. لربما سيتحول الموقف من نقاش علمي إلى صراع كلامي لا يسمن ولايغن من جوع. ثم هل من فائدة ترجى من هذه النقاشات؟ مالهدف منها؟ دعوات للتبشير أم حرب لتهديم الآخر؟ قد يتحول شخص أو اثنان من معتقد لآخر.. ثم يبدأ التهليل والفرح!! أجد من الأولى أن تكون العلاقة الدينية بين الفرد وربه ولا دخل لأي شخص آخر بالأمر. لا تزال كلمة صديقي السني عالقة في ذهني «لأنك صديقنا ونخاف عليك مما أنت عليه، نتمنى أن تتحول للمذهب السني» هل من الصعب أن تكون الإنسانية والمحبة والأخوة هي ما يجمع الناس بدل أن تفرقهم الأديان.. هذا كافر وهذا مشرك وهذا يهودي وهذا مجوسي. الإختلاف طبيعية حتمية يجب أن نتوافق معها لا أن نستبدلها بصراع ديني أو طائفي.
المتدينون يتشربون من منبع واحد.. منبع قطعي لا يحتمل إعادة التفكير والتأمل.. العلم هو مستقبل الأمم.. به تنهض وبدونه تفشل وتعجز. الشعوب التي جل همها هذا مؤمن وهذا كافر ستظل في القاع.. والشعوب التي تبحث وتنتج وتستثمر في العقول ترتقي وتحيا.
أن نقرأ.. أن نفكر.. أن نبحث.. أن نتواصل مع مختلف الحضارات.. أن نتحلى بعقلية ناقدة.. عقلية ديكارتية تشك بكل شيء.. فما يثبت قيمته يظل وأما الزبد فيذهب جفاءً.. صدقًا.. الحياة أقصر بقصير من أن تضيع جدليات عقيمة.. فتأمل.