ماذا يفعل الأسد في كربلاء؟
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول قصة الأسد الذي كان يحرس جسد الإمام الحسين بعد مقتله في كربلاء، وقد وردت هناك عدة صيغ لهذه القصة، وقد اتخذها البعض أداة للاستدلال على جواز تشبيه هذه الحادثة في العزاء الحسيني بارتداء شخص زي أسد والوقوف على جنازة الحسين ، واعتبرها البعض من الشعائر الحسينية التي يتقرب إلى الله بها.
أنا هنا لن أتحدث عن مسألة شعائرية هذه المسألة من عدمها، فأنا لست بفقيه لأحكم بذلك، ولكن سأتحدث في مقدمات ما قبل الاستدلال، وهي البحث في أصالة الرواية - أو القصة - ومدى صلاحية دخولها في طريق الاستدلال من عدمه، وكذلك عقلانية الأمر من عدمه من خلال بعض الملاحظات التي نسجلها على هذه الحكاية.
وهناك مسألة مهمة قبل الخوض في هذه القضية ينبغي أن نتطرق إليها، لأن البعض سيتساءل: وما المانع أن يحصل ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى؟ أليس هو القادر على كل شيء؟؟
فنقول: لا شك بأن الله قادر على كل شيء، ولكننا هنا نسأل إن كان هذا حقاً حصل أم لا؟ ولانسأل أن هذا ممكن من الله أم لا؟ قد أسألك عزيز القارئ: هل الله عاجز أن يجعل لك جناحين تطير بهما إلى السماء؟ ألا يستطيع الله أن يجعل طفلك يتحدث في مهده كما حصل مع نبي الله عيسى ؟؟ بالتأكيد سيكون جوابك: لا، لا شيء يعجز الله أن يصنع ذلك بقدرته.
ولكن سؤالنا التالي سيكون: هذا ممكن، ولكن هل جعل الله لك جناحين؟ هل تحدث ابنك في مهده؟
ونفيك أن هذا لم يحصل في الواقع، لا يعني أنك تنكر قدرة الله جل وعلا، فأنت تنكر فعل الوقوع لا إمكان الوقوع.
في البداية ننقل القصة بالنص كما جاءت في بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 45 - الصفحة 193 - 194:
"وقال: حكي عن رجل أسدي قال: كنت زارعا على نهر العلقمي بعد ارتحال العسكر عسكر بني أمية فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلا بعضها، منها أنه إذا هبت الرياح، تمر علي نفحات كنفحات المسك والعنبر، إذا سكنت أرى نجوما تنزل من السماء إلى الأرض ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها، وأنا منفرد مع عيالي ولا أرى أحدا أسأله عن ذلك، وعند غروب الشمس يقبل أسد من القبلة فأولي عنه إلى منزلي، فإذا أصبح وطلعت الشمس وذهبت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهبا فقلت في نفسي: إن هؤلاء خوارج قد خرجوا على عبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى، فوالله هذه الليلة لا بد من المساهرة لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا؟
فلما صار عند غروب الشمس وإذا به أقبل فحققته وإذا هو هائل المنظر فارتعدت منه، وخطر ببالي: إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني، وأنا أحاكي نفسي بهذا فمثلته وهو يتخطى القتلى حتى وقف على جسد كأنه الشمس إذا طلعت فبرك عليه فقلت يأكل منه وإذا به يمرغ وجهه عليه، وهو يهمهم ويدمدم، فقلت: الله أكبر، ما هذه إلا أعجوبة، فجعلت أحرسه حتى اعتكر الظلام وإذا بشموع معلقة ملأت الأرض، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض ففهمت من ناع فيهم يقول: وا حسيناه! وا إماماه! فاقشعر جلدي فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله من تكون؟ فقال: إنا نساء من الجن فقلت: وما شأنكن؟ فقلن: في كل يوم وليلة هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان.
فقلت: هذا الحسين الذي يجلس عنده الأسد؟ قلن: نعم، أتعرف هذا الأسد؟
قلت: لا، قلن: هذا أبوه علي بن أبي طالب، فرجعت ودموعي تجري على خدي. "
وسيكون نقاشنا هنا من جهتين، من جهة صحة الصدور والروائية، والأخرى مناقشة في متن القصة.
لو تتبعنا آثار هذه القصة للاحظنا أن هذه الرواية مذكورة في بعض الكتب الحديثية والسيرة والمقاتل المتأخرة، مثل: بحار الأنوار للمجلسي ج45 ص 193، والدمعة الساكبة للبهبهاني ج5 ص5، وأسرار الشهادة للدربندي ص440، ومدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني ج4 ص 64، ومعالي السبطين للمازندراني ج2 ص59، وغيرها.
· أن هذه المصادر ترجع في النهاية إلى مصدر واحد، وهو كتاب المنتخب المنسوب للعلامة فخر الدين الطريحي ج2 ص329، أو ترجع إلى مصادر ترجع إلى هذا الكتاب، وقد تحدث الكثير من المحققين والعلماء في التشكيك بصحة نسبة هذا الكتاب إلى العلامة فخر الدين الطريحي «قده»، لوجود الكثير من الأخطاء التاريخية والحديثية وربما اللغوية التي لا يمكن أن تصدر عن هذا الشيخ اللغوي المفسر المؤرخ، وذكر بعض الأعلام أن هذا الكتاب يحتمل أن يكون لأخيه وليس له.
· لا نجد مصادر أخرى من كتب السير والمقاتل المعتبرة - وحتى غير المعتبرة - مما هي أقدم من منتخب الطريحي تنقل هذه القصة، فلا نعلم من أين جاءت بعد حوالي 1000 عامٍ من واقعة كربلاء إلى هذا الكتاب.
· أن بعض المصادر التي نقلت عن المنتخب بدأت تختلف بعض ألفاظها في نقلها.
· نلاحظ أن الحادثة تبدأ بـ «حُكيَ عن رجل أسدي»، فلا نعلم من الذى حكى للشيخ، ومن هو هذا الرجل الأسدي، فالقصة من شخص مجهول إلى شخص مجهول!، بل ذكرت بعض المصادر أن هذا الزارع يهودي، كما في كتاب رياض الشهادة.
· والأهم أنها حكاية، وليست رواية عن أحد المعصومين، فلو سألنا أحدهم، عمّن تنقل هذه الرواية من المعصومين، أو من أصحابهم - تنزّلا -؟ فلن تجد أي رد.
وهنا لا يمكننا الاعتماد على هذه الرواية بالذات لتكون دليلاً شرعياً لإثبات شعيرة من الشعائر أو حكماً من الأحكام، ولا حتى على قاعدة التسامح في أدلة السنن، فهذه القاعدة قد تمضي الأخبار الضعيفة أو أخبار الآحاد، وربما الموضوعة المنسوبة للأئمة، ولكن لا يمكنها أن تشمل الحكايات والقصص التي تنقلها كتب الأخبار والسير.
عندما نتأمل هذه القصة سنصطدم ببعض الملاحظات التي قد لا يتقبلها العقل السليم والفطرة النقية والعقيدة الصحيحة في أهل البيت «عليهم سلام الله»:
· أن هذا الأسد إن كانت مهمته حراسة الجثث، فمن المفترض أن يحرسها طوال الوقت، لا أن يحرسها ليلاً ويتركها نهاراً نهبة للسباع والطيور الجارحة والشمس اللاهبة.
· لا نعلم ممن سيحرس هذا الأسد هذه الجثث، فالتفكير العقلاني السليم يقول أن هذه المعجزة إن كانت ستحدث فمن الأولى أن يحرس هذا الأسد الإمام الحسين في حياته من بطش الجيش الأموي، أو على الأقل أن يحرسه من رض جسده بعد قتله، أو أن يحرس خيام النساء ليلة الحادي عشر، فلماذا تأخر كل هذا الوقت ليصل متأخراً بعد أن حصل ما حصل؟
· وإن قيل أنه يحرس جسد الإمام من السباع، فإن العقيدة العامة لدى شيعة أهل البيت أن أجسامهم ولحومهم محرمة على السباع والنار، فيكون حضور الأسد لا طائل منه مادامت السباع لن تقرب جسده الطاهر.
· أن هذا الرجل كان عليه أن ينتظر إلى الليل ليتأكد أن هذا الأسد يأكل من الجثث أم لا، بينما كانت نظرة منه للأجساد التي تناثرت على الأرض تكفي للإجابة على هذا التساؤل بدلاً من الانتظار إلى حلول الظلام.
· أن نساء الجنّ هن اللاتي أخبرنه بأن هذا الأسد هو الإمام علي ، فما أدراهن بذلك؟ وكيف صدّق كلام الجن؟ من الممكن أن يكون ذلك وهماً.
· وهنا نسأل بكل عفوية، ما المصلحة أن يتشبه الإمام علي بن أبي طالب بصورة أسد مادام سيُعرف بأنه هو؟ ما فائدة هذا التنكّر؟ لماذا لم يظهر كما هو «علي بن أبي طالب» الذي تخشاه الأسود قبل الفرسان؟!
· أضف إلى ذلك عدم قبولنا أن يظهر الإمام بصورة حيوانية - وهي أقل من الصورة الإنسانية - وهو الكامل الإنسانية، فذلك يقلل من شأنه الكمالي.
هذه النقاط وغيرها لا تدع لدينا مجالاً للشك بأن هذه القصة المختلقة لا تتسم مع الذوق السليم والعقيدة الصافية في أهل البيت الذين نعتقد فيهم الحكمة والكمال.
إضافة إلى أنها ليست رواية بل قصة مجهولة المصدر والحاكي، فلا يمكن الاستدلال بها والاعتماد عليها.
ولا يعني نفينا لهذه القصة المختلقة إنكارنا للشعائر الحسينية بشكل عام، وإنما ننكر ما ليس من الشعائر أصلاً، وما دخل عليها بلا دليل صامد ولا برهان ناصع ولا كتاب منير.