جيران متحابون «1»
بالأمس كان للجار دخالة قوية في تحديد سعر الأرض، فيعلو به أو يهبط، بحسب المؤشر في سوق أسهم الجيران التي كانت ذات علاقة متينة بسوق العقار في الماضي. فإذا كان الجار من ذوي المؤشر الأخضر، ترتفع العقارات حوله، وإن كان من ذوي المؤشر الأحمر، والعياذ بالله، فإن ما حوله من عقار يهبط هبوطا حادا شبيها بهبوط الأسهم في سوق البورصة لدينا، والذي يُطيح بالبعض كلا أو بعضا. لكن الفارق أن ذلك الهبوط معروفة أسبابه، أما في البورصة فالفعل دائما مبني للمجهول.
يتحدث أحد الشعراء الماضين عن بيع عقار له بسعر زهيد، رغم كونه كما يبدو على شارع تجاري بحسب مصطلحات العقاريين اليوم، ولذا لم يسلم من لوم الناس له، فأجابهم موضحا الأسباب:
يلومونني أن بعتُ بالرخص منزلا
ولم يعرفوا جارا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم كفوا الملام؛ فإنها
بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
الجار قبل الدار. كلنا يحفظ هذه المقولة، والتي وردت أيضا في ثنايا وصية الإمام علي لولده الإمام الحسن : «سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار». تلك المقولة أصبحت صعبة التطبيق في زمننا الحاضر. ذلك أن من استطاع إلى امتلاك شقة أو قطعة أرض سبيلا، فإنه سيسرع إلى تملكها ولو كانت في مخطط من مخططات الوهم، ولن يسأل إلا عن سعرها. أما جارها فليكن من يكن، لأن علاقة الجوار انقرضت أو تكاد، أو لنقل تطورت مجاراة للنظرية الداروينية، فأخذت شكلا جديدا لا طعم له ولا رائحة. لم يعد أمر الجيران الذين لا يعرف بعضهم بعضا، ولا يتزاورون، مقتصرا على المدن الكبيرة، بل إن العدوى انتقلت للقرى والأرياف، فصار أقصى ما يطمح له كل واحد من جاره أن يكف أذاه عنه.
لا أريد أن أتحدث عن الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من حال، حتى صارت الأسرة الواحدة في البيت الواحد متباعدة عن بعضها رغم وحدة الجغرافيا الضيقة جدا، إذ البيوت في الغالب لا تتعدى بضعة مئات من الأمتار المربعة فقط، وليست كدار ربيعة بن عسل الذي وفد على معاوية، كما في البيان والتبيين للجاحظ، فقال له: أعِنّي بعشرة آلاف جذع في بناء داري بالبصرة. فقال له معاوية: كم دارك؟ قال: فرسخان في فرسخين. قال معاوية: هي في البصرة أم البصرة فيها؟ قال: بل هي في البصرة. قال معاوية: فإن البصرة لا تكون هذا.
أقول: لن أتحدث عن الأسباب وهي كثيرة، لكني فقط سأُذكّر ببعض النصوص الشريفة الواردة في الكتاب والسنة في الجار والجوار، مبتدئا بآية من كتاب الله المجيد أوصت بمجموعة من الحقوق الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها بعد حق الله تعالى، ومنها حق الجار:
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً» النساء: 36
الآية الكريمة تتحدث عن صنفين «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ» أي الجار القريب والجار البعيد، لأن الجار في المفهوم الإسلامي لا يختص بالقريب الملاصق، بل هو أبعد من ذلك بكثير. ففي الحديث الشريف عن رسول الله : كل أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.
هل فكرنا في جيراننا بهذا الامتداد الواسع؟!
للحديث بقية...
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.