في تجديد الفكر الديني «1»
أصبح الحديث عن تجديد الفكر الديني متداولا بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، وصار يستقطب الكثير من الاهتمام في الأوساط المثقفة، خصوصا تلك المهتمة بتطوير خطاب ديني مواكب للعصر ومتوائم معه كما يردد البعض.
لا أحد يجادل في أهمية هذا العنوان، أي تجديد الفكر الديني، إلا أن هناك العديد من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها قبل الحديث في التجديد أو المطالبة به، ويمكن أن نطرح بعضها كالتالي:
أولا: ما المقصود بالتجديد الديني؟
غالبا ما يكون الحديث عن التجديد دون تحديد دقيق للمصطلح، مما يعني غياب الإطار المفهومي واختلاف التصورات والاستنتاجات تبعا لذلك. فمن السهولة أن ندعو للتجديد العائم الغائم فيستقطب خطابنا الكثير من المؤيدين الذين لكل واحد أو فئة منهم تصور خاص عن التجديد يختلف عما لدى الآخر، وربما يتعارض معه أشد التعارض. لذا فإنه يلزم من ناحية منهجية تحديد مرادنا من التجديد قبل الخوض فيه مطالبة أو تأييدا أو معارضة. فالأمر كما يقول ابن الرومي في جوابه لطلب غَرِيرٍ بحسن «وحيد» وصفها: «يَسهل القولُ إنها أجمل الأشياء طرا ويصعب التحديدُ».
البعض يعني بالتجديد استحداث أدوات جديدة لقراءة النص الديني، والاستفادة من النظريات الجديدة في حقل علم المعرفة، وهو ما قد يقود إلى نتاج جديد على صعيد الرؤى والفتيا. والبعض يعني به إحداث تغيير في الخطاب الديني ليكون أقرب إلى حاجات الناس وأفهامهم. بينما يرى بعض آخر أن التجديد هو تبديل بعض القوانين والأحكام الشرعية التي لا تتوافق من وجهة نظرهم مع العصر بأخرى أكثر ملاءمة؛ إما بحجة تعارضها مع بعض مقررات حقوق الإنسان ذات المرجعية الغربية، والمعترف بها عالميا، أو بحجة عدم صلاحيتها باعتبارها أحكاما تاريخية كانت تخاطب مجتمعا وحاجات مختلفة، كما يقولون. ويرى بعض رابع بأن التجديد مساوق لمخالفة السائد، فكل نتاج يتوفر على عنصر المخالفة يعتبر تجديدا بغض النظر عن مدى وجاهة المخالفة وعلميتها. وبعض خامس وسادس وهكذا....
من هنا فإن تحديد المصطلح مهم جدا، إذ بدونه سيكون الحديث أقرب إلى حوار الطرشان، ولن يمكن تحديد الممارس بحق للتجديد من غيره، فكل يدعي وصلا بليلى.
ثانيا: ما هي ضوابط التجديد وآلياته؟
من المسلم به في أي حقل من حقول العلم والمعرفة أنه لا يمكن أن يُنسَب منتج لذلك الحقل إلا إذا كان متماشيا مع المعايير والضوابط التي تحكم الإنتاج فيه. فمثلا قد يدعي أحد اكتشاف دواء جديد لمرض ما، ولكن ذلك لن يكون مقبولا في الوسط العلمي المختص بالدواء إلا إذا ثبت من خلال سلسلة طويلة من الإجراءات والضوابط والاختبارات الصارمة فعاليته وصلاحيته، وحُددت تركيبته بدقة والجرعات المناسبة وتأثيراته وما إلى ذلك.
وإذا كان هذا ضروريا لأي منتج، فإنه في الحقل الديني أكثر ضرورة وأهمية. فلا يمكن أن يكون إنتاج الفكر الديني دون ضوابط وآليات محددة تكشف عن قيمة الفكر المنتَج ومدى جِدّته وسلامة طريقة إنتاجه. إن تحديد تلك الضوابط والآليات يكون كما هو الأمر في أي مجال آخر للمختصين الذين يستطيعون التمييز بين التجديد الحقيقي وغيره. قد يقول البعض بأن هذا يمثل احتكارا لإنتاج المعرفة الدينية على فئة معينة، وهو قول يثير العجب في عصر التخصصات الدقيقة التي تعترف لكل صاحب اختصاص بمرجعيته وتحترم رأيه فيه. فهل إنتاج الفكر الديني استثناء؟!
يمكن بالطبع لغير المختص أن يساهم بدور فعال في التمهيد لإنتاج فكر ديني جديد من خلال إثارة الأسئلة والإشكالات وإبداء الرؤية الثقافية، أما نفس الإنتاج فيبقى متاحا لمن يمتلك أدواته.
ثالثا: ما هي دائرة التجديد؟
هل يطال التجديد كل القوانين والتشريعات المنظمة لحياة الإنسان ابتغاء مواكبة المستجدات والعصرنة، أم إن دائرته أضيق من ذلك؟
معلوم أن حاجات الإنسان منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير. والإسلام باعتباره الدين الخاتم قد وضع لكل حاجات ما يناسبها، فللثابت قوانين ثابتة، وللمتغير قوانين متغيرة. يقول المرجع المعاصر الشيخ السبحاني: إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدّل، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات. وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط، مستخرجة منها، بإمعان ودراية خاصة، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعه على ضوء هذه الخطوط العريضة، بشرط أن لا يصادمها، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدّد الملابسات واختلاف الشرائط.