محاكمة العُرف المقدّس
تتماهى الخطوط الحمراء تحت درجات عديدة، وتحتَ عناوينَ لا حصر لها. هي تارةً عاداتنا التي فُرِضت علينا فرضًا، وتارةً خصوصياتنا التي ما تفتأ تصلب حرياتنا على جدار الزمن، هي تلك القيود التي نعيش إزاء أطِرِها. العرف، أو مجموعة القواعد التي تحكمُ مجتمعًا ما، هو الذريعة الأكثر تداولًا لتشريعِ فعلٍ أو منعه. وينحى منحى المقدّس من حيث ضرورة الالتزام به.
في هذه المقالة، سيتم تناول مصطلحات «العادات»، «التقاليد»، «الأعراف»، لتدلّ على مفهومٍ واحد بُغيةَ التبسيط والإيجاز.
● التقاليد حاجة إنسانية
بداية لا بُدّ من مقدمة لا غنى عنها، ألا وهي أن العادات والتقاليد سمة أساسية لأي مجتمع من المجتمعات. فهي ما تشكّلُ هوية الشعب وثقافته المميّزة. ما بين رقص الغجر وترحال البدو، ومن طقوس الإنكا حتى حفلات الشاي في بريطانيا، ثمة رابطٌ ثقافي يُوحّدُ مضامين هذه العادات. للعادات سحرها الخاص، كذلك فهي ذي فائدة عظيمة للعقل البشري، كونها توجه النفس للتصرف وفق نمطٍ معيّن دونما حاجةٍ للتفكير في كل خطوة يتم اتخاذها، مما يريح العقل من عناء التفكير المتواصل والمجهِد. فينبغي أن يُفهمَ أنّ لا حضارة دونما تقاليد، ولا التقاليد تنفكُّ عن المجتمع.
● معضِلة العُرف الأزلية
لطالما يتم تقديم العرف كمبرّرٍ كاف للاقتناع بحجة ما، أو كوسيلة لتمرير العديد من المغالطات غير المتناسقة فكريًّا، وهو ملاذ العاجز حينما تخونه حجّته، فيلجأ إليه كخاتمة جاهزة تكفيه عناء المبارزة. يجهل الكثيرين حقيقة أن استمرار شيء لمدى طويل من الزمن لا يعني صحته، بل يلاحظ على العادات بالعموم خلُوها من أيّ علّة غائية تقودها، فلا سبب عقلاني يدعو للتمسك بها في أغلب الأحوال، ولكنها، من اسمها، تدخل في حكمِ العادة. العبودية على سبيل المثال عوملت باعتبارها شيئًا طبيعيّا على مدى قرون إلى ما قبل مئتي عام من الآن، لكنّ ذلك لا يجعل من تجارة الرقيق فعلًا مقبولًا وصائبًا في عصرنا الحالي.
● العرف متغيّر
كذلكَ يُستشهدُ بالعرف في سياقٍ يوهمُ المتلقي على أن العرف ثابت، والثوابت يجب أن تظل ثابتة. بينما العرف لا محالةَ مُتغَيّر
طبقًا لمبدأ التأثر والتأثير: «السابق يؤثر في اللاحق، واللاحق يتأثر من السابق»، فالحضارات بلا استثناء تخضع لهذا المبدأ، فلا توجد حضارة وليدة نفسها، وليست بحصيلة تراكمات حضارة أخرى، أو نتاج تداخل عدة حضارات. تأثرَ اللإسبان في الأندلس بالعرب، وتأثرَ اليونانيون بمصرَ القديمة، وهكذا. كانت النساء في قطيفِ ما قبل النفط يلبسن «لردى»و « النفنوف» و«الشيلة» و«الزي الهاشمي» و«المشمر»، ولم يعرفن البوشية والعباة إلا بعد أن اجتاحتهن قسرًا. كتبت إيميلي لو رينار، عُضوة المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، في مقالها المعنون بـ «سياسات «كشف النقاب عن المرأة السعودية» [1] : بين المخيال ما بعد الاستعماريّ ودولة الرقابة» ما نصه:
«مع ترسيخ دعائم الدولة السعودية ابتداءً من ستينات القرن الماضي، أخذ النظامُ تدريجياً بفرضِ قانونٍ على الزيّ للرجال والنساء السعوديين. عنى الأمرُ للفئة الثانية ارتداءَ عباءاتٍ طويلة سوداء وتغطيةَ الوجه. عملت مؤسسات حكومية مختلفة، كالمدارس والجامعات وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - التي يُشار إليها غالباً بـ «شرطة الآداب» أو «المطاوعة» - على فرض رقابةٍ شديدة بشكل متزايد على قانون الزيّ النسائي الصارم»
أما على المدى القريب فأذكر كيف اعتلى المنبر أحد خطباء القطيف الأجلاء محذرّا من حُرمةِ النقاب كونه مخالفًا للعرف وجالبًا للفتنة. كان ذلك أولّ ما دخلت ثقافة النقاب للمجتمع القطيفي، أما الآن فلا غروَ من النقاب أينما شوهِد.
وليس خفيًّا تأثُّر المجتمع القطيفي بتبعات الثورة الإيرانية ١٩٧٩، حيث تغلغلت موجة من التدين داخل أوساط المجتمع، معلنةً بداية حقبةٍ جديدة. وعليه يتضح جليًّا أن العُرفَ يتغير بتغيّرِ الزمن. ولا يجوز القياس بالمتغير منطقيًّا. ناهيك عن نقطة أن الثبات أو التغير ليس معيارًا لأفضلية شيء على آخر. فقد يثبتُ السيءُ برهةً من الزمن، وويتغير للأسوأ لاحقًا، والعكس صحيح.
● أعراف مجنونة
● الفصل بين الجنسين «Sex segregation»
ماذا يعني أن تضع جدارًا سميكًا بين الإناث والذكور منذ الطفولة حتى الكِبر؟ بالتأكيد يعني نتائج كارثية مُستقبلًا على المستويين النفسي والإجتماعي. تكثر قضايا التحرش الجنسي في نطاق الجنس الواحد «مثلية الجنس» في السعودية وبأرقام مهولة. في ٢٠٠٦، بيّن الدكتور عبدالله اليوسف أستاذ علم الإجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود أن إحصاءات وزارة التربية والتعليم تشير أن الممارسات السحاقية في مدارس البنات تشكّل ٤٦٪ من القضايا الأخلاقية في تلك المدارس. وفي دراسة للدكتور حسن علي الزهراني الاخصائي النفسي بوزارة الصحة، فإن ٢٣٪ من الأطفال ما بين ١١ - ١٥ هم عُرضة للاعتداء الجنسي في السعودية[2] . هذا غيض من فيض، فالدراسات في هذا الشأن نادرة، والحالات المُعلن عنها أقل بكثير من الحالات المسكوت عنها. بالطبع، فالثقافة الجنسية من المحرمات الإجتماعية، وثقافة «الستر» أسهل من ثقافة مواجه المشكلة التي تجلب «العار». في الواقع، لا حاجة للإحصائيات، يعايشُ الكثيرُ منا لسنوات هذا الوضع المزري أثناء الدراسة في المراحل المختلفة. عادةً ما يتمُّ إلقاء اللوم على الأعذار المُعدة سلفًا «The usual suspects»: ضعف الوازع الديني، سوء تربية الأسرة، وتأخر الزواج، لكن الصّدمة أنّ أيّا منها ليس المشكلة. السبب ببساطة هو الفصل الهائل بين الجنسين. تتشابه السعودية مع دولة أخرى هي أفغانستان، حيث البيدوفيليا وتجارة الغلمان شائعة لدى الرجال، والمشتركُ الرئيس هو الفصلُ الجنسي.
يتحدث المؤرخ والفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة عن القبائل البدائية التي يعتزل رجالُها نساءَها.
«قد ترى إلى اليوم قبائل لا تجد فيها للحياة العائلية أثراً فالرجال يعيشون معتزلين النساء، ولا يزورونهن إلا لماما، حتى الطعام ترى كلا من الفريقين يأكل بعيداً عن الأخر؛ وفي شمالي بابوا لا يجوز للرجل أن يرى مجتمعاً بامرأة أمام الناس حتى وإن كانت تلك المرأة أم أبنائه؛ والحياة العائلية ليست معروفة في »تاهيتي« على الإطلاق، ومن انفصال الجنسين على هذا النحو تنشأ العلاقات السرية - عادة الاتصال بين الرجال والرجال - التي تراها في كل الأجناس البدائية، وهي مَهْرب يلوذ به الرجال في كثير من الحالات فراراً من المرأة»[3]
هذه الحالة من الأساس ليست شذوذًا اعتياديًّا «homosexuality»، بل تُسمّى «Situational sexual behavior» أو بالسلوك الجنسي الظرفي [4] إن صحّت الترجمة. تنشأ هذه الحالة من القيود البيئية أو الاجتماعية «restrictive environment»، وتكون في مراحل الاتصال بالبيئة المعنية فقط. بمعنى أن هؤلاء هم أشخاص ذوي ميول طبيعية للجنس الآخر، فتراهم حينما يكبرون يتزوجون ويكونون أسرًا، فقد انفصلوا عن بيئتهم السابقة. ومن أشهر الأمثلة على السلوك الجنسي الظرفي «The harem effect» أو« تأثير الحريم»: وهو حينما تلجأ الفتاة للعلاقة مع فتاة أخرى نظرًا لافتقاد الاتصال بالجنس الآخر، وتلاحظ هذه الحالة بشدة في سجون النساء.
فالمجتمع يمنعُ الفعل ويصنعُ بيئته، مصداقًا لقول الشاعر: ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له.. إياكَ إياكَ أن تبتلّ بالماءِ.
لا يتوقف تأثير الفصل عند ههذا الحد، فبالإضافة للكبت الجنسي والجفاف العاطفي والعنف، يبقى هنالك حالات الفشل الذريع للزواج. تمنع القيود الاجتماعية أي وسيلة للتعرف على الطرف الآخر قبل مرحلة الزواج. لا تزال عملية اختيار شريك العُمر تتم بطريقة بدائية أشبه برمي النرد. الزواج بالنسبة للرجل هو فرصة للنضج وللفتاة فرصة للهروب من مستقبل خانق. أما مفاهيمَ مثل الحب قبل الزواج فهي عبارة عن أضغاث أحلام.
● محاربة الفنون
أن تهوى الفن، فأنت تحبّ الحياة، وأن تحاربُ الفن، فأنت تقدِّسُ الموت. الفن بكلّ تمظهراته وأشكاله مرآة لإبداع المجتمع، غذاءٌ للروح وفلسفةٌ للجمال. آسف حقًّا حينما أرى من يسعى بكلّ ما أوتي من قوة ليحُدّ من أيّ بذرةٍ لانتشار الفن في المجتمع. هناك من يبرع فِعلًا في تدمير كل ما هو جميل. في القطيف، قد يحدثٌ تُمنعُ أمسية موسيقية بدَلًا من تشجيعِ المشاركين فيها. وقد تُثار حربٌ شنعاء على أوبريت شاركت به فتياتٌ صغيرات، وقد وقد،،. لا بُدّ من توفيرِ مناخٍ صحيّ يشجع الموهوبين على إطلاق قدراتهم وإلا اكتنفنا البؤس من كل الجهات.
● إشكالية المقدس
و أعني بالمقدس ما لا يُمس. وهنا أقتبس من كتاب المقدس والمجتمع: «يعتبر ماكاريوس أن البحث في المقدس في في ذاته إبطالٌ لمفعولِ قدسيته، بل إنه شكل من أشكال المحرم». أو كما عبَّرَ دوغلاس أدامز ذات مرة واصفًا الأفكار المقدسة «هذه الفكرة أو المصطلح لايحق لأحد أن ينتقدها وهذا كل شئ». التقديس بقدرِ ما هو يُطمئنُ القلب، فهو مرعبٌ للعقل، فأنت حينما تقدسُ الشيء لا ترى عيوبه. ماذا لو قدّس مجتمعٌ الجهاد بالشكل الذي يُنتجُ داعش، أو قدّس العِفّة بالشكل الموجود في أفغانستان، أو قدّس شعيرةً ما بحيث يُسببُ الضرّر البالغ لغيره؟ فلا حولٌ ولا قوة. الحديثُ في المقدس شائكٌ ومليءٌ بالألغامِ بحق. أعجبُ من أمةٍ لديهم تراثٌ فلسفي عميق، وقد أبدعَ فلاسفتهم «الحسن بذاته» و«القبيح بذاته»، أن يتخذوا القبيحَ حسنًا. فلا حلّ إلا بتحكيمِ العقلِ في جميع مساعي الحياة.
يُستكمل في الجزء الثاني من المقالة «محاكمة العُرف المقدّس «المرأة أنموذجًا» »