ماذا تريد كل أسرة؟
قلما يمر يوم دون أن نسمع أو نقرأ أو نشاهد خبراً عن مشكلة أسرية هنا، أو تفكك أسري هناك، أو نتابع حلقات من محاكمة أب مارس عنفاً وحشياً تجاه زوجته أو أبنائه، أو محاكمة أخ أكبر تعامل كالسجان مع إخوانه وأخواته، أو نصطدم بالأرقام المتزايدة حول ارتفاع نسب الطلاق في المجتمعات العربية والإسلامية والعالمية، وزيادة أيضاً في معدلات الانتحار وهروب الفتيات من منازلهن.
بالإضافة لما سبق، نجد أن السعي المتزايد نحو تأسيس مشاريع حماية أفراد الأسرة، واهتمام الجهات الرسمية والأهلية في متابعة وتوفير الاستشارات حول المشاكل الأسرية، ومساعٍ لفتح مكاتب ومراكز تعنى بشؤون الأسرة، جلها جهود طيبة ومساعٍ جميلة ومطلوبة، ولكنها في الوقت ذاته مؤشرات خطيرة على المنحدر الذي تسير نحوه الأسر والمجتمعات! مما يدفع لإعادة التفكير والبحث والدراسة حول المعالجات المطلوبة.
تلك الصور، وغيرها كثير، تُظهر مستوى من الشقاء الأسري الذي يعيشه الفرد في الأسرة. وأزعم بأن كل فرد منا لا يتمنى أن يعيش الشقاء الأسري. فلا أحد يتمنى أن تتبعثر أفراد أسرته بأبغض الحلال وهو الطلاق. ولا أحد يتمنى أن تسود أجواء العنف والتوتر في منزله. ولا أحد يود أن يمارس هو أو يُمارس عليه السخرية والاستهزاء والمهانة والتحقير والإذلال والعنف. ولا يرغب أحد منا في أن يدور بين غرف المحاكم بسبب مشاكل داخلية تتعلق بخصوصيات بيته، أو يُسجن بسبب دماء سالت وآلام تفصدت من أجساد أقرب الناس إليه!
على العكس من ذلك، كل وأحد منا يتمنى العيش مع أهله بالمودة والرحمة. يتمنى السكون العائلي الدائم. يتمنى الاستقرار والراحة. يتمنى الحياة الخالية من المشاكل اليومية. يتمنى أن لا تفارق البسمة وجوه أفراد أسرته. يتمنى كلمات المحبة والحنان تتدفق من أفواه أولاده وبناته وإخوانه وأخواته ووالديه وزوجته. يتمنى الإحساس بالدفء العائلي ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً.
بكلمة مختصرة، يريد المرء «السعادة الأسرية». وطبيعته البشرية تكره الشقاء الأسري. بيد أن هذه السعادة لا تأتي، في زمن موصوف بسرعة الإيقاع، وفي حياة مليئة بالضغوطات المتعددة والصخب المتنوع، لا تأتي عفوية دون إرادة جادة من طالبيها. فالسعادة بحاجة إلى قلوب طامعة بها، وعقول باحثة عنها، وأنفس تشتاق إليها، وحواس تستشعر مكامنها، لأنها غالية الثمن، لا مستحيلة فينصرف المرء عنها، ولا يسيرة الركوب فيمتطيها، بل هي حياة أشبه بـ «السهل الممتنع».
بين الشقاء الأسري والسعادة الأسرية مسافة أكبر مما بين السماء والأرض. فالأولى تفضي لشقاء الدنيا والآخرة، والثانية تفضي إلى جنة الدنيا، وربما إلى جنة الآخرة. وهنا نكتة لطيفة عبرت عنها جملة وردت في الأثر وتقول: « لن تُعرف حلاوةُ السعادة حتى تُذاق مرارة النحس».
الأشياء تُعرف بأضدادها. وقيمة الموجودات تُعرف عند فقدانها. ومجتمعاتنا لا تحتاج إلى التعرف على قيمة الشقاء الأسري لأنها تسمع وترى صوره ونتائجه من داخلها ومحيطها. مجتمعاتنا بحاجة للتعرف على قيمة السعادة الأسرية وآليات ووسائل تحقيقها كي تنعم بالراحة والاستقرار وبالتالي تنطلق نحو الحياة العملية بنجاح وازدهار متجاوزة كل عقبة في الطريق بروح التفاؤل، وهي باب من أبواب السعادة المستمرة، فهل نعرف أبواب السعادة الأسرية الأخرى؟ نأمل ذلك. والله من وراء القصد.