البركات بين النزول والاحتباس
هل من علاقة بين الإيمان والتقوى والاستغفار والعمل الصالح من جهة وبين وفرة الخيرات والبركات في مجتمع ما؟ وعلى الطرف الآخر، هل من علاقة بين الكفر واقتراف المعاصي واكتساب السيئات من جهة وبين سلب تلك الخيرات والبركات عن مجتمع ما؟
الجواب يمكن أن يستنبط من مجموعة من الآيات القرآنية التي تحدثت عن وجود تلك العلاقة في الحالتين، وأن للنوع الإنساني دورا رئيسيا فيما ينزل به ويحل عليه. لنتأمل في الآيات المباركات التالية:
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».
«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ».
«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً».
«وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً».
«وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».
«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
ربما يتساءل البعض: أليس في هذا تغييب للقوانين الطبيعية أولا؟ ألا نرى أن السيول والزلازل والإعصارات والبراكين لها أسبابها الطبيعية، ولا أثر للمعاصي في حدوثها؟ ثم لماذا نرى مجتمعات لا تلتزم بالأحكام الشرعية هي أحسن حالا من المجتمعات الإسلامية من ناحية الخير الوفير والنماء والازدهار؟.
أما بالنسبة للتساؤل الأول، فجوابه أن المؤمنين من أهل القرآن لا ينفون الأسباب المادية الطبيعية، ولكنهم يضيفون لها أسبابا أخرى معنوية غيبية، وعلى حد قول صاحب الميزان بأن «مرادهم إثبات علة في طول علة، وعامل معنوي فوق العوامل المادية، وإسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب: أولا وثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الانسان وإلى يده». وبالتالي لا تعطيل للعوامل المادية وتأثيراتها.
ربما تسببت سيطرة خطاب التفسير المادي للحوادث والظواهر الكونية، خصوصا مع التقدم العلمي الهائل في مجالات العلوم الطبيعية والفلكية والرياضية، في استبعاد العوامل المعنوية وتغييبها، بل والاستهزاء أحيانا من القائل بها. وهنا ينبغي على كل مؤمن بالقرآن أن لا يتأثر سلبا بمثل ذلك، بل عليه أن يطرح الأسئلة الجريئة ويبحث عن الإجابات الشافية مع عدم التشكيك بالكتاب العزيز ومدلولاته.
أما التساؤل الثاني، فجوابه أن المجتمعات المتقدمة حضاريا إنما تقدمت تقدما نسبيا بمقدار ما أخذت بالأسباب من العمل الجاد وتطبيق العدالة الاجتماعية والنظام وسيادة القانون والشفافية والمحاسبة والأمانة والكفاءة وغيرها. فبقدر نسبة ما تأخذ تحصل على نسبة عادلة من التقدم، وبقدر ما تهمل من الأسباب المعنوية تقترب من حافة الانهيار النفسي والأخلاقي، وهذا أمر يلحظه كل مراقب منصف. ومن أراد المزيد يمكنه أن يقرأ الكتابين المرموقين «الأول: أميركا والإبادات الجنسية، والثاني: أميركا والإبادات الثقافية» لمؤلفهما منير العكش، أستاذ اللسانيات واللغات الحديثة ومدير البرنامج العربي في جامعة سفك ببوسطن بالولايات المتحدة الأميركية.
أما لماذا تبدو أوضاع المجتمعات الإسلامية بائسة رغم إيمانها بربها، فيقول صاحب تفسير الكاشف: «إن مجرد الإيمان باللَّه لا ينبت قمحا،... إن المراد بالإيمان الموجب للرزق هو الإيمان باللَّه مع العمل بجميع أحكام اللَّه ومبادئه، وإقامة العدل في كل شيء، وأنه متى عمّ العدل وساد صلحت الأوضاع، وذهب البؤس والشقاء». ويقول في تفسير قوله تعالى: «وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» «أي لم يعملوا بأحكام اللَّه، بل سعوا في الأرض فسادا بالظلم والجور، والسلب والنهب، وتكديس الثروات على حساب الضعفاء والبؤساء، وقد أخذهم اللَّه بالهلاك والعذاب، لأنهم كفروا واستأثروا».