«التلقي الأرعن» هل سبق أن تلقيت خبرا بلسانك؟
هذا سؤال قد يبدو مستغربا عند البعض، لأن اللسان ليس من أدوات التلقي كما هو معلوم وجدانا عند كل أحد. ولكن السؤال صحيح مائة بالمائة يؤكده واقع الحال في المجتمعات البعيدة عن العلمية في ممارساتها وأنشطتها الحياتية، الفكرية منها والعملية.
لو أجرينا مسحا على عينات عشوائية من مجتمعاتنا العربية لنعرف كيفية تلقيها للأخبار والمعلومات والأفكار من مختلف وسائل الإعلام وصناعة الرأي العام والشبكات الاجتماعية الحديثة، ومستوى إخضاعها ما يصلها لسلطة العقل وتمريرها في غربال النقد قبل أن تقوم بتصديقه أو تبنيه، فسوف نكتشف إلى أي مدى بعيد يتم التلقي باللسان فيها. فالآراء والمواقف تُتخذ في الغالب بناء على المُتلقَّى من تلك الوسائل غير البريئة قبل أن تتم تصفيته وفرز غثه من سمينه، وهذا ما يجعلها عرضة للتغير والتحول حسب ما يريده صُناع الرأي، فكأنها وُدّ امرئٍ متلونٍ، كما يقول الشاعر «إذا الريحُ مالتْ مالَ حيث تميلُ». مثل تلك المجتمعات تكون قابليتها للاختراق وأهليتها لانتشار الشائعات في أعلى مستوياتها بسبب استشراء آفة التلقي بالألسن فيها وتمكنها منها. وقد وبخ القرآن الكريم من يمارس ذلك من غير وعي منه لخطر تلك الممارسة على الصعيد الاجتماعي كله. يقول تعالى: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ»، ففي هذه الآية تحذير شديد من القول بغير علم. وإذا أضفنا لها قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» ندرك التركيز القرآني الكبير على التمسك بالعلمية على المستويين الاجتماعي والفردي، إذ غير العلم «لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً».
وهنا قد يرد سؤال: نحن نعلم أن خبر الواحد الثقة مثلا لا يفيد علما، وإنما يفيد الظن، ولكن الفقهاء يعملون به، وكذلك الأمر بالنسبة للظهور العرفي للآيات القرآنية، والإجماع، مع عدم إفادتها للعلم، فكيف نوفق بين هذا ومفاد الآية الكريمة التي تنهى عن اقتفاء ما ليس للإنسان به علم؟
وقد ناقش هذا الإشكال صاحب تفسير الميزان، وأجاب عليه بأن للإنسان «في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة وإما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه ويدل عليه، وعلى هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم». فالآية كما يرى «تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة إنما هو عمل بتلك الحجج العلمية».
وبالنتيجة فليس كل ظن لا ينبغي الأخذ به وترتيب الآثار عليه، بل هناك ظنون قام الدليل العلمي على اعتبارها كتصديق خبر الثقة والعمل على طبقه. وبهذا ينحل الإشكال ويجاب على السؤال.