يكذبون حتى النهاية
توقف بعض المفسرين مليّا عند قوله تعالى في سورة الأنعام: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ. ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» ثم حاول هذا البعض أن يصرف الآية عن ظاهرها إذ لم يقبل أن يجرؤ أو يتمكن أحد من الكذب يوم القيامة حين تتجلى الحقائق وينكشف الغطاء عن الأعين «يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ». ولذا اضطُر للقول بأن هؤلاء المشركين كانوا صادقين في يمينهم في قوله تعالى: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين. ثم اضطُر لابتكار جواب آخر عن قوله: «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» بأنه «يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم: إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا، وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة». وقد ناقش هذا القول الفخر الرازي في تفسيره الكبير وردّ عليه.
وبرغم معارضتنا للرأي الذي يصرف الآية عن ظاهرها، إلا أننا قد نجد بعض العذر لذلك المفسر لأنّ تصور أن يمارس الكذب أحد في حضرة الله تعالى يوم القيامة أمر ليس سهلا، ولكن القرآن الكريم الذي «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» قد أخبر عن وقوع ذلك في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» بعد قوله في آية سابقة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
وقد نجد تفسير هذا الأمر واضحا عند علماء الأخلاق الذين يرون أن العلاقة بين الشخص والصفة التي يكتسبها تتدرج من كونها حالة طارئة إلى ملَكة إلى اتحاد. وفي المرحلة الأخيرة، أي الاتحاد، لا تنفك الصفة عن المتصف بها، وتبقى ملازمة له. وهي مرحلة خطيرة إذا كانت تلك الصفة مذمومة بل في أعلى درجات الذم، كالكذب على الله تعالى.
وربما يطرح البعض هنا تساؤلا: ألا يتناقض هذا مع قوله تعالى في آية أخرى: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا»؟. والجواب، كما قال صاحب تفسير الكاشف: إن في القيامة العديد من المواقف، يستطيع الإنسان في بعضها الإنكار، حيث لم يشهد عليه في هذا الموقف يداه ورجلاه بما كان يعمل، وعلى هذا الموقف يحمل قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وفي بعض المواقف يعترف بما كان منه، حيث لا مجال للإنكار، وعليه يحمل قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
ويؤكد هذا الجواب ما ورد عن الإمام علي في حديث له عن أهوال القيامة: ثم يجتمعون في موطن آخر فيُستنطقون فيه، فيقولون: «والله ربنا ما كنا مشركين».
إن من أعظم الدروس المستخلصة من هذه الآيات أن على كل واحد منا أن يتأكد من الصفات الخُلقية ذات العلاقة الوطيدة به. فإن كانت تلك الصفات حسنة، فبها ونعمت، وإلا كان عليه العمل على تدارك الأمر والتخلص منها قبل فوات الأوان.