المعيشة الضنك والحياة الطيبة
تستوقفنا بعض الآيات حين نحاول تطبيقها على أرض الواقع، إذ قد يظهر لنا للوهلة الأولى أنها لا تنسجم مع المعطيات الخارجية، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظر إما إلى فهمنا لتلك الآيات أو إلى إدراكنا للواقع أو إلى الاثنين معا.
من تلك الآيات على سبيل المثال قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ» التي تعرضنا لبعض البيان حولها، حيث ذهب بعض المفسرين إلى أنها تتحدث عن حال المرابين يوم القيامة، ربما لأنهم أو بعضهم لم يلمس لها تطبيقا في دار الدنيا، فاضطُر لتفسيرها بالدار الآخرة. ولكنه تفسير مردود إذا فهمنا أن المقصود بالقيام ليس هو المقابل للقعود، وإنما هو المساوق للقيام المذكور في قوله: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» وقوله: «وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ» «أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى» والذي يعني الانبعاث لأداء فعل ما أو تدبير أمر أو شأن.
من تلك الآيات أيضا قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» فإن من المفسرين من رأى أن المعيشة الضيقة إنما تكون في البرزخ، وليست في الحياة الدنيا. غير أن التأمل في النظرة القرآنية للحياة والموت والسعادة والشقاء يكشف لنا أن تلك المعيشة واقعة في الدنيا أيضا. فمن يتأمل في قوله تعالى: «أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا» وفي قوله: «فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ» وفي قوله: «لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» وقوله: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» وغيرها من الآيات يدرك أنها تنظر للإنسان في بعدَيه المادي والروحي مع إعطاء الأولوية للروح على البدن، فكل ما فيه سعادة الروح هو مصدر لسعادة الإنسان، وما كان فيه شقاء الروح كان مصدرا لشقاء الإنسان. مثلا قد ينفق الإنسان ماله في سبيل الله وهو في غاية السعادة بذهاب ماله، بل قد يضحي بنفسه وهو في أسمى حالات السرور والانتشاء. وربما تجتمع سعادة البدن والروح معا، كما في المال والبنين إذا لم يكونا صارفَين للإنسان مُلهِيان له عن ذكر الله.
إن ذكر الله هو مصدر الاطمئنان القلبي كما قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»، وهذا هو الذي يفتقده المُعرض عن ذكر ربه، فتصير حياته متقلبة مضطربة، يسعى وراء إشباع بعده المادي، فيظل في لهاث دائم، وقلق مستمر، كلما حاز شيئا طمعت نفسه في غيره، ورأى ما اقتناه مكدّرا باحتمال زواله أو رحيله هو: «فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ».