دعوة لحياة مختلفة
لا يتذوق كل أحد لذة النصوص الراقية، ولا يبصر كل أحد جماليات اللوحات الفنية ذات المضامين العالية. وهذا أمر طبيعي، لأن إدراك ما هو غير محسوس لا يستطيعه من لا يغادر المحسوس إلا إليه.
هكذا هو الأمر دائما في المعنويات، فقليلٌ هم الذين يشعرون بمتعة مناجاة الله تعالى التي ذكرها الإمام زين العابدين في أحد أدعيته: «وَمَتِّعْنا بِلَذِيذِ مُناجاتِكَ وَأَوْرِدْنا حِياضَ حُبِّكَ وَأَذِقْنا حَلاوَةَ وُدِّكَ وَقُرْبِكَ»، وقليلٌ هم الذين يؤدون الصلاة ملتذين بأفعالها وأذكارها، وقليلٌ هم الذين يذوبون في حب العلم ويعشقون عناء المعرفة وسهرها. أما في الماديات فحدّث ولا حرج. هل رأيت أحدا يغبط آخر على انهماكه في البحث العلمي أو لتعلقه بالكتاب؟! ربما، ولكنهم قلة القلة. أما الذين يغبطون الأثرياء على ثرواتهم ويتمنون مكانهم فأعدادهم تفوق الحصر.
قارون أبهر أكثر قومه حين خرج عليهم في زينته، فظنوا أنه المحظوظ دونهم: «قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ولم ينتبه لحقيقة الأمر إلا القليل، وهم الذين تعلقت قلوبهم بما هو أسمى: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ». موقفان متباينان يلخصان القصة التي تعيد نفسها يوميا «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
ولأنهم لا يعلمون تأتي الآيات الشريفة لتحض على وجوب العلم بحقيقة الدنيا وموقعها: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ».
وتركز الكثير من الآيات في هذا الصدد على تقرير أمرين هامين يكون للإيمان بهما أكبر الأثر في توجيه سلوك الإنسان وتحصيل سعادته. الأول: أن الحياة الدنيا هي دار متاع زائلة، والثاني: أن متاعها مهما كثر وعظُم في أعيننا فهو قليل في جنب الآخرة ونعيمها. يقول تعالى: «أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ» «وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ» «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً» «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ».
ومع وضوح هذه الحقيقة وجلائها لدى عامة المؤمنين باليوم الآخر، إلا أن استحضارها ليس بالشيء اليسير. وهذا ما أوضحه الله تعالى أجمل توضيح في قوله تعالى: «وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ. وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» فلو أن الله تعالى أعطى لكل كافر به الدنيا وزخارفها وزبرجها، وكان المؤمن خالي الوفاض منها، لاجتمع الناس على الكفر ناسين أن ذلك متاع قليل عابر.
أخيرا نقول: هذه ليست دعوة لذم الدنيا ونبذها، بل هي دعوة لفهمها فهما صحيحا. يقول الإمام علي : إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَمُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ.