نحن والبحث عن الخلود
كل واحد منا يعشق الخلود، فهذا أمر فطري مشترك عند ذرية أبينا آدم جميعا. ولأن إبليس لعنه الله ذو خبرة عميقة بالإنسان وما أُودع فيه من غرائز، فقد كان حب الخلود مدخله الأساس للوسوسة الأولى، كما قال تعالى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى» وقال: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ».
بعض الناس يحسب أن المال وسيلة لخلوده فينهمك في تحصيله واقتنائه، يجمعه بشتى السبل، ويكنزه محافظا عليه أشد المحافظة: «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي «يحسب أنّ ماله قد صيّر منه موجودا خالدا، لا يستطيع الموت أن يصل إليه، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كلّ مشكلة، وهو يملك هذا المفتاح». والإنسان يتعلق أكثر بالأشياء كلما ظن أنها تمتلك مقومات الخلود، وهذا ما بيّنه تعالى بقوله عن الرجل صاحب الجنتين وظنِّه الخاطئ: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدا».
لا يتوقف الأمر عند المال، فالسلطة أيضا قد يحسبها البعض أمرا خالدا مخلِّدا، فيتصرف بواسطتها كأنه من الخالدين، فيبطش بطش الجبارين غير آبهٍ أو ملتفت إلى أنها ستنتهي ذات يوم، حتى إذا اكتشف حقيقتها يومذاك قال نادما: «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ».
لكل ذلك، اهتمت الآيات المباركة بهذه الغريزة الفطرية عند الإنسان، وركزت على توجيه بوصلتها في الاتجاه الصحيح، من خلال التالي:
1 - تأكيدها على خيرية وخلود ما عند الله في مقابل متاع الحياة الدنيا وزينتها السائرين إلى زوال. يقول تعالى: «إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» ويقول: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً» ويقول: «وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ».
2 - الدعوة إلى الاهتمام بإصلاح شأن الآخرة باعتبارها دار الخلود والبقاء، وعدم الانشغال بزينة الدنيا عنها: يقول تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى» ويقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».
3 - إلفات الإنسان إلى طبيعته المهتمة بالعاجل الفاني دون الآجل الباقي: يقول تعالى: «كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ» ويقول: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى».
هكذا توجه الآيات الشريفة غريزة حب الخلود توجيها سليما يجعل منها أداة لصنع حياة سامية تكون معبرا لنعيم الخلود، وليس عائقا عن التقدم نحوه، فالدنيا كما ورد عن الإمام علي : «من نظر إليها أعمتهُ، ومن نظر بها بصَّرتهُ».