القائد وحده لا يكفي!
كثيرا ما تعلق بعض المجتمعات فشلها على عدم وجود قيادة لها، فهل لهذا الأمر من نصيب على أرض الواقع؟ الجواب ببساطة في المقولة الهامة: يظهر المعلم عندما يكون التلميذ مستعدا.
فالمجتمعات الناجحة هي التي تنتج قيادات ناجحة، وعلى الضد منها المجتمعات الفاشلة التي تعمل على وأد المؤهلين للقيادة وتهميش دورهم. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا من التاريخ والحاضر.
نبي الله هارون لم يكن شخصا عاديا، فالله سبحانه وتعالى اختاره شريكا في أمر أخيه موسى «عليهما السلام». يقول تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» ويقول: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» ويقول على لسان موسى : «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» ويقول عنهما: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ». ومع كل ما يمتلكه من مواصفات عظيمة جعلته أهلا للنبوة، ومع قدراته البيانية السامية، إلا أنه تعرض للخذلان من بني إسرائيل في قضية السامري وعبادة العجل، أي في قضية العقيدة الأولى التي ما كان يُتوقع منهم أن يسقطوا في اختبارها الأول بعد عبورهم البحر ونجاتهم من فرعون وزبانيته.
هارون لم يقف موقف المتفرج على الانحراف الكبير الذي شاهده في قومه، بل قام بواجبه في النصيحة وبيان طريق الرشاد، يقول تعالى: «وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي». فقد أوضح لهم في أسلوب الحريص عليهم وعلى مستقبلهم الفتنة التي وقعوا فيها، وبين لهم المخرج منها بخطاب قريب من النفوس «يا قَوْمِ»، ولكنهم لم يذعنوا له، وأصموا أسماعهم عنه، إذ كان جوابهم كما أخبر القرآن: «قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى». وفي جوابهم عناد وإصرار على المضي في الطريق الخاطئ بانتظار عودة موسى نفسه من ميعاده مع ربه، برغم كون هارون خليفة معينا من موسى بأمر الله، وهم يعلمون ذلك تمام العلم: «وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ». ولم يكتفوا بذلك، بل أمعنوا في غيهم وضلالتهم، فاستضعفوا هارون وأرادوا تصفيته جسديا والتخلص منه: «ِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
هارون كان يعلم أنه لا رأي لمن لا يُطاع، وأن القائد مهما أوتي من مواصفات، فإنه لن يكون قائدا بالفعل ما لم يُسمع قوله ويُطَع أمره «فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي»، خصوصا إذا كان قوله وأمره صادرَين عن الله تعالى. في العالم كله لا توجد قيادة «شخصية أو مؤسسية» من غير توافر قبول اجتماعي بها.