في عاشوراء الكتاب يوزع مجانا ولا يباع
موسم عاشوراء معني بذكرى سيد الشهداء وحبيب الله ورسوله المصطفى محمد ابي عبدالله الحسين ، هذا الموسم يعبر عنه المسلمون الشيعة وغيرهم بتفجير الطاقات الذاتية والفكرية والنفسية والروحية، حيث تجد في هذا الموسم برغم قصر أيامه التي لا تتعدى العشرة أيام، تبدأ من اول شهر محرم الحرام حتى نهاية اليوم العاشر من نفس الشهر من كل عام هجري، ولكن الإنجازات الحاصلة في هذه العشرة لا تُعد ولا تُحصى، والعبرة في الكم لا في الكيف، وهنا تكمن الكرامة الإلهية في هذا الموسم القصير والمدة المتواضعة التي نرى فيها هذه المجموعة من الإنجازات الكبرى ما لا نراه طوال العام من الإنجازات والإبداعات، من الخطب الثقافية والدينية والتوجيه وزيادة البرامج والمباحثات الثقافية والكتابة من الكتاب والمثقفين من مختلف التوجهات والأديان والثقافات، والسعي الكثيف في خدمة عموم الناس والمجتمع تطوعا دون تحصيل اي مقابل وفي مختلف المجالات الخدمية والمتعددة، ولا يقتصر على جانب تقديم الخدمات بل تجد علوا في مستوى الهمة الروحية وشحذ الهمم عند غالب المتأثرين بالثقافة الحسينية الى درجة ملفتة مستمدة من روح الثقافة الحسينية وبطل هذه الأيام المباركة الإمام الحسين .
الكتاب الثقافي يُعد أهم قنوات العلم وواحد من أهم روافد المعرفة منذ عرف الإنسان الكتابة وسوف يظل اهم قناة لمختلف العلوم والباعث للتقدم والتطور والاكتشافات العلمية والفكرية، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون الكتاب سهل المنال ومتداولا بين ايدي كل الناس، وينبغي أن يكون أرخص سلعة في الأسواق بحيث يكون الجميع قادر على اقتناءه حتى لا تحجب المعرفة أو تحتكر عند فئة دون أخرى.
وفي حال كان سعر الكتاب باهض الثمن بحيث يتم التعامل معه كمنتج تجاري أو كسهم تجاري تتلاعب الاغراءات المالية عند أصحاب النفوس غير المسؤولة، فيصبح الكتاب سلعة حاله حال بقية المنتجات التجارية في الأسواق، لتنتفي عندها القيمة المعنوية للكتاب وتتعطل الأهداف النبيلة والإنسانية والفكرية.
وعندما يصبح الكتاب الثقافي صعب المنال، فإن النتيجة هي غياب الكتاب شيئا فشيئاً من بين ايدي الناس، ومعني هذا أن المجتمع يؤسس لنفسه مسارا نحو التخلف والرجعية والانحطاط الفكري، وهذا بطبيعة الحال يجعل المجتمع وأبناؤه يتأخرون عن الركب الحضاري بألاف الأميال قياسا على بقية المجتمعات الأخرى المتقدمة حضاريا وفكريا وصناعياً.
وهنا تستحضرني كلمة رائعة للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله، وهو الذي يُعد من أبرز الكتاب والمؤلفين في القرن العشرين والواحد والعشرين اذ بلغت مؤلفاته حسب إحصاء بعض الكتاب المهتمين بالكتابة والتأليف على مستوى العالم ما يقرب من ألف وخمسمائة كتاب في شتي العلوم والمجالات العلمية والثقافية والفكرية، وقد رُشح لدخول مجموعة كنيس العالمية بصفته المؤلف العربي المسلم الوحيد الذي يحقق هذا الرقم الفريد في الكتابة والتأليف على مستوى العالم ولم يظهر كاتب حتى هذا الوقت بلغت مؤلفاته هذا الرقم المتميز.
كانت كلمته الجميلة التي سجلها له التاريخ ترمي إلى هذا المفهوم وإلى هذه الغاية التي أشرنا إليها وهي سهولة تحصيل الكتاب حيث قال ”يجب أن يكون سعر الكتاب أرخص من رغيف الخبز“ وهذا يعني أن المعرفة أو الفكرة لا ينبغي أن تكون حكرا على فئة دون أخرى، بل يجب أن تسود المعرفة بين كل الناس حتى يصبح الجميع متنورا ومثقفا لأجل أن يتحمل الجميع مسؤولية التجديد والتحديث والتنوير، ومن جهة أخرى، الوصول لصناعة مجتمع واع وقوي معتمد على ذاته وطاقاته وأدواته ومساهما في حركة اكتشافات الكون، وهذا الوعي يبعد المجتمع وابناؤه عن ثقافة الاتكالية والعبودية والخمول وعدم الاعتماد على الغير إلى درجة العبودية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ما تصنعه هذه العشرة العاشورائية المباركة والاعجازية في الواقع هو أحداث تغيير شامل في سلوك معظم الناس من بث روح العطاء وسمو في حسن الخلق وبروز مجموعة من العلماء والكتاب والمثقفين المخلصين وأصحاب النفوس الطيبة والابية من الذين حملوا شعلة المسؤولية والحس الفكري والإنساني والوطني في بدل ما بوسعهم في العطاء الفكري.
اذ ترى هذه المجموعة وهي من تكتب وتؤلف وتطبع وتوزع مؤلفاتها مجاناً وعلى نفقتها الخاصة ولربما تكون هي بأمس الحاجة إلى هذا المال، ولكن في سبيل كسب الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى والمساهمة في مشروع النهضة الحسينية ونصرة الإمام الحسين في مشروعه الإصلاحي التاريخي والمستقبلي وفي سبيل المساهمة لرفع مستوى الثقافة والمعرفة عند أبناء المجتمع تجدهم يبرزوا وينشطوا بتقديم هذا العطاء الفكري المميز بكل حب ومودة للجميع.
وهنا أشير لبعض الكتاب الكرام الذين رأينا فيهم هذه الهمة وهذا العطاء الكريم منذ عهد طويل وهم مازالوا على هذا المنوال أي في كل موسم عاشوراء ترى بعض مؤلفاتهم توزع مجانا في بعض المجالس والمواكب الحسينية المباركة، وكذلك في موسم شهر رمضان المبارك وبكميات كبيرة ومتنوعة العناوين والاطروحات الفكرية، كسماحة العلامة والباحث والمفكر والخطيب الشيخ فوزي آل سيف، وسماحة العلامة المفكر والباحث الشيخ حسن الصفار ووالكاتب والباحث والمفكر الأستاذ محمد محفوظ، وسماحة السيد طاهر الشميمي من أصحاب الهمم العالية في تثقيف الشباب والشابات وقد يكون هناك كتاب اخرين يحملون نفس هذه الهمة والمسؤولية وربما توزع مؤلفاتهم وكتبهم في أماكن أخرى ولكن لا تستحضرني أسمائهم أو ليس عندي علم بهم ولهم منا جميعا جميل الشكر والتقدير.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن سهولة الحصول على الكتاب لا ينبغي أن تكون منحصرة على موسم عاشوراء فقط، بل يجب أن تعمم هذه الثقافة طوال العام، وما موسم عاشوراء الا داعم ودافع للتذكير بأهمية تعميم هذه الثقافة الواعية والمدركة لأهمية ان يكون الكتاب في يد كل الناس.
وهناك أشير كذلك إلى ثقافة خاطئة يتبناها بعض ذوي الأقلام والفكر أو الجهات التي تحمل شكلا من أشكال الثقافة البائسة في طريقة التسويق للكتاب، وهي عندما تجد قيمة الكتاب السوقية ذات ثمن باهض ومكلف.
هذه السلوك البائس هو ما عطل رسالة الكتاب الذي قال عنه ربنا ”ألم ذلك الكتاب التي لا ريب فيه هدئ للمتقين“ أي أنه يعطل مشروع الكتاب وهو الهداية والبصيرة والعلم والتعلم والتنوير ويحوّله إلى سلعة يجني منها المال والأرباح الطائلة، وهذا هو السقوط الحقيقي الذي يهوي بالمجتمع للتخلف والدمار الفكري والتأخر عن ركب الحضارة والصناعة والحداثة، لهذا ينبغي مواجهة هذا النوع من الثقافة بالرفض، والتصدي لها بكل ما أوتينا من قوة والسعي لإعادة المفهوم الحقيقي لدور الكتاب، لكي يكون الكتاب متوفرا في اي وقت وفي أي مكان وبسعر ارخص من رغيف الخبز فيكون سهل المنال كرغيف الخبز أو أقل من ذلك، حتى نظفر بمجتمع واع ومثقف ومتميز.