القراءة بالعدوى
لا يمكن للقراءة بالعدوى أن تكون منصة ومنطلقًا لتشكيل مناخ اجتماعي لقراءة واعية تستهدف اجتثاث جذور التخلف والجهل واستنبات بذور النهضة الثقافية والعلمية. والقراءة بالعدوى التي نقصد هنا هي قراءة الكتب التي يكثر الكلام عليها في وسائل التواصل الاجتماعي أو في مختلف المواقع؛ الحقيقية والافتراضية، دون التثبت منها ومن فائدتها وجدواها.
إن هذا التوجه القرائي قد يستبطن داخله سلوكًا غير رشيد، هو جزء مما يطلق عليه في علم الاجتماع أحيانًا «السلوك الجمعي»، الذي يشير إلى سلوك الأفراد عندما يكونون في حُشود أو مجموعات كبيرة غير منظمة، فينخرطون في سلوكيات قد لا تكون سليمة؛ لكونها تغلق أبواب العقل وتفتح أبواب العاطفة والانفعال. وينسحب الأمر على القراءة حين يطفو على السطح اسم كتاب ما أو تزداد شعبية كاتب ما، فترى حشود الناس تتوالى لابتياعه بغض النظر عن مادته ومحتواه. وليت الأمر يتعلق بكتاب جيد أو مفيد، بل لطالما ذاع صيت كتب ليس لها من الأهمية أو القوة نصيب، بل تعتمد إما على قوة دار النشر وإما على صورة الغلاف أو تصميمه وإما على عناوينها الرنانة. وقد قالها وولتر بوب قبل مدة طويلة: عندما يشتري المرء كتابًا لا لسبب إلا لأنه إصدار ناشر أو كاتب معروف فهو كالشخص الذي يشتري ثيابًا لا تناسبه ولكنها من صنع خياط مشهور، أو كما قال الروائي الياباني هاروكي موراكامي: إذا كنت تقرأ فقط الكتب التي يقرؤها الجميع فستفكر فقط كما يفكّر الجميع.
وتتوارى أحيانًا خلف انتشار عناوين بعض الكتب أهداف تجارية تسويقية، إذ نلحظ تزامنًا في الحديث عنها في عدة منصات إخبارية أو مواقع أو وسائل تواصل، وهو أمر مشروع بمقدار ما يحصل لسائر السلع والخدمات، لكن لأن الكتاب يعد بوابة المعرفة والتأثير في تشكيل مستقبل الأجيال فقد كان لزامًا علينا أن نكون أكثر حذرًا في انتقائه، حتى لا يكون على حساب الكتاب الجيد. إن فعل القراءة أمر حميد ومطلوب دائمًا مهما كان محتوى المقروء، لكن لأن الكتب دائمًا ما تكون أكثر عددًا من قدرة أي شخص على قراءتها جميعًا طوال حياته، بل حتى نسبة ضئيلة منها، فإن على القارئ أن ينتقي منها ما يفيده حقًّا على الصعيد المعرفي والأدبي بأقل جهد ووقت. كذلك فإن أي كتاب نقرؤه لا بد أن يترك في دواخلنا تأثيرًا ما، يصغر أو يكبر حسب موضوع الكتاب وأسلوبه وقوة أفكاره، بل إنه قد يغير مسار حياة الأفراد وحتى الأمم. وجماع القول: إن على القارئ أن يتأنى عند اختيار الكتب التي يزمع قراءتها ويبتعد عن التأثر بما يشاع عن كتب معينة أو ما يمكن أن نطلق عليه القراءة بالعدوى؛ لأن القراءة فعل فردي، وما يصلح لشخص قد لا يصلح بالضرورة لآخر.
* إذا قابلت شخصًا نادر الذكاء يجب أن تسأله عن الكتب التي يقرأ. رالف إيمرسون
* أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف. إنهم لا يكرهون رأيه، ولكن يكرهون جرأته في الإقدام على التفكير بنفسه ليكون مختلفًا. آرثر شوبنهاور