هندس طريق النفس.. استشاريٌ
المقدمة - زبدة مرجعية
من عجنت طينته منذ زهور سنينه الأولى بسميد العترة الطاهرة - المُشَهَّدْ بالقرآن الكريم ونفحات قدسهم العرشي المتنزل من حقيقة نبع الوجود وغايته المصطفى وصنوه والبتول بضعته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - واكتساء ثوب الولاية الإلهية حتى غدا مرجعاً أعلى وهو الزاهد المُغيبُ شمسه في كوخه عن سماء النجف القدسية رغبة في ما عند الله تبارك وتعالى بعيداً عن معكرات العروج أو فتن الظهور ”... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً... «35»“ «سورة الأنبياء» إلى أن تدخلت يد الولي العطوف على رعيته عجل الله فرجه الشريف ليجعله على هرم صرحٍ لا يشغله إلا الأوحديون في زمانهم.. ها هو سيدنا ومولانا ينثر علينا من درر بئر سمائه الغائر في العمق كما هو راس الجليد الممتد في عمق المحيطات شذرات بقدر ما يحتويه الزمان ويتحمله نصائح للشباب ونصائح في زمن الغيبة ونصائح لخطباء المنبر الحسيني ورواديده وشعرائه ما ينسج صورة شمس حكمة محمدية علوية فاطمية حسنية حسينية معصومية ”فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»“ «سورة المؤمنون». وفي مجلسه اليومي العامر بالفيوض الإلهية يستقبل المؤمنين بحنان الأب الشفيق رغم عناء الجسم تحدوه روحٌ مهدوية لينالوا من مرجعهم كأس وصال وإن كان ذلك اللقاء اليومي يأخذ من طاقته وهو في هذا السن المقدس المتقدم دام ظله الوارف.
ومن نعم الله التي لا تحصى أن يتناهى إلى أسماعنا بعض الدرر النجفية في مجلس العامر بعروج الملائكة وهبوطها دام ظله الوارف - وظل جميع مراجعنا الأعاظم ورحم الله الماضين منهم وقدس أسرارهم - التي تغرس وعياً من رجل حق فيه قول الصادق
”العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس“. منها تلك الحادثة عن مجموعة من ضيوفه من العلماء المختصون في المجالات العلمية التجريبية المهمة جداً للإنسانية في عصرنا الحاضر - في حادثة لا حاجة لتفصيلها هنا - قوله للقائمين على خدمة مكتبه الحيدري «مضموناً»: ”هؤلاء علماء.. والنظر للعالم عبادة“. يأتي هذا القول في وقت كم أجحف هؤلاء العلماء ومثلهم ومن هذا المقام السامي رغم خدمتهم للإنسانية بخدمات جليلة ونادرة نتيجة جهد مضنٍ وصبرٍ راسخ على اكتساب العلم والبلوغ إلى الذروة فيه.
لب المقال/ عبد طريق النفس.. استشاريٌ
من هؤلاء العلماء الذين يجب وجوباً أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً - بل يكاد يكون فقهياً لو كنت ممن يمنحه - ذلك الاستشاري الذي رأيته ”نسراً نافذ البصر في التخصصية والتعمق إلى كل ما يخدم عمله المقدس في علاج النفوس من رواسب الزمان الثقيلة الذي استطاع أن يبني الطبيب الحاذق على أرض الواقع فأصبح رقماً يفخر الطب بنتاجه في سماء الرعاية الطبية التي جمع درر الطب الحديث عنها في حضن الغربة ليعود لوطنه كنزاً نادراً“ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ «14» " «سورة فاطر».. فقد نُقل عن بعضهم أنه استطاع بمكالمة واحد أن ينقذ أحدهم من عناء سهرٍ متواصلٍ لثلاثة أيام متواصلة.
وترتقي هذه المكانة في النفس عندما يكلل ذلك السمو بشهادة صديق طفولته الصدوق فكيف إذا كانت الصداقة ارتقت إلى مقام ”الأخ الذي لم تلده الأم“ وذلك الأخ الصديق مرتقٍ في مدارج الفضيلة والوعي بأسمى صورها حيث استطاع هو أيضاً أن يشكل مفخرة علمية دقيقة حكيمة وأديبة أريبة في قولها وفعلها. فيتضح لك وأنت تصغي لحديثه عنه أنك أمام ”خصائص نفسية وفكرية“ و”شخصية.. ثقافياً واجتماعياً“ و”سمات نفسية“ و”خصائص إيجابية“ قل ما تجتمع في شخص إلا شخصاً نال التوفيق من الله تبارك وتعالى بأن سقى بذرته أبوان عشقا محمد وآل محمد وحضناً اجتماعياً رعى ذلك الغرس وأساتذة بصيرين وإخوة وأصدقاء ورفقاء واعين وطموحين لتسلق سلالم المجد وذروة العلم... كيف لا وهو جيلٌ ذهبي.
أهمية سلامة النفس في النصوص الشريفة والعلم الحديث
لمعرفة قيمة ذلك الاستشاري النفسي ومن على مسلكه لابد من ومضات عن أهمية السلامة والصحة النفسية دينياً وطبياً:
في النصوص الشريفة:
النفس مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى التي جعلها آية من آياته ”سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «53»“ «سورة فصلت». ”فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والأرضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائماً قطعاً بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للإِيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء والأرض التي هي اتجاه أعينهم وتحت مشاهدتهم“ «تفسير الميزان». و” «آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إنّ كلّ هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود اللّه. أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحير الذي يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثمّ أسرار الروح العجيبة. إنّ كلّ ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم“ «تفسير الأمثل». فارتباط الروح المجردة بالجسم المادي موضع تأمل وآية كبرى من آيات الله تبارك وتعالى والنفس هي نتاج هذا الارتباط كما تفضل بمفاد ذلك أحد الأعلام الأجلاء دام ظله.
نعم النصوص الشريفة تتعرض لجنبة أخلاقية من جوانب النفس ف «تزكية النفس هي الغاية التي لأجلها أُرسل الأنبياء والرسل، إذ لا قيمة لعبادةٍ يخالطها الرياء، ولا لعلمٍ تصاحبه الكبرياء. إنّ النفس إذا سلمت من أمراض الحسد والعجب والغضب نُقّيت مرآتها، وانعكست فيها أنوار المعرفة بالله. ومن لم يطهّر نفسه من الرذائل، لم يجد طعم الإيمان الحقيقي ولا لذّة الطاعة... ”لذلك“ صحة النفس مقدّمة على صحة الجسد، لأنّ فساد النفس يؤدّي إلى اضطراب السلوك، وفساد المجتمع، بينما إصلاحها يورث السكينة والطمأنينة، ويجعل الإنسان يعيش سلامًا داخليًا ينعكس على بدنه وصحّته» ”«من كتاب «معارف الإسلام» «ص 77 - 85» فإعطاء النفس حقها المقرر في رسالة الحقوق لمولى العابدين وسيد الساجدين - الإمام المكلوم والمفجوع في أبيه وأهل بيته وصحبه وبالأسر صلوات الله وسلامه عليهم - الذي كان أسوة حسنة في إعطاء النفس حقها وعدم ظلمها رغم المصيبة العظمى والزمن القاسي الذي مر به.. كيف لا وهو من أهل بيت العصمة ومنار من منار الإمامة. ف“ الظلم في الإنسان يبدأ من ظلم النفس، ومن يظلم نفسه بالشهوات أو المعاصي يفسد روحه قبل أن يفسد بدنه. إنّ حفظ النفس من الانحراف عبادة، كما أنّ تهذيبها صدقة، لأنّ النفس إذا استقامت على ميزان العدل والحقّ، سَلِم المجتمع بأسره ”. فمن الواضح أن“ سلامة النفس تجعل الإنسان متوازنًا في غضبه وشهوته، فلا يظلم ولا يعتدي، لأنّ القلب إذا امتلأ بالتقوى أمدّ الجسد بالقوة والعافية ”«نهج الرسول
: القيم الرساليّة والإنسانيّة“.
الصحة النفسية في العلم الحديث
استعنت هنا بصديقنا الجديد ”المُخرزم“ على جمع المعلومات من ملايين المصادر - إن صح التعبير - لجمع بعض أقوال علماء الحديث عن الصحة النفسية نقتبس منها التالي:
سيغموند فرويد «Sigmund Freud» ”الصحة النفسية ليست مجرد غياب المرض، بل القدرة على الحب والعمل بسلام مع الذات والآخرين“.
آبراهام ماسلو «Abraham Maslow» ”الصحة النفسية تعني تحقيق الذات والوصول إلى أقصى إمكانات الفرد“ «1».
فيكتور فرانكل «Viktor Frankl» ”الصحة النفسية ليست فقط حالة من الراحة، بل هي القدرة على إيجاد معنى في الحياة حتى في أصعب الظروف“ «2».
جون بول بيتس «John Paul Bates» ”الإهمال النفسي يؤدي إلى أمراض جسدية؛ الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة البدنية“ «3»
الزبدة
يتضح مما سبق أن الصحة النفسية سواء أخلاقياً أم سلوكياً أم معرفياً هي حجر الأساس في مسيرة الإنسان وهي المؤثر الأقوى في نجاحه دنيوياً وأخروياً.. لذلك شرافة العلم والعالم ودوره بشرافة موضوع فكما للأخلاق والمربي الأخلاقي المكانة السامية كذلك هي لا تقل أهمية في الطب النفسي وهذه قداسة للدور وليس للشخص فميزان كل الأمور هو الدين فكيف بمن جمع شرف العلم والسلوك بالدين.. أولئك من العلماء الذين يصح في حقهم ”النظر إلى العالم عبادة“ ويرتقي هذا المقام إذا كان ذلك العالم متديناً في معارج سامية ومطلع إن لم يكن متخصصاً جزئياً في العلوم الدينية وسالكاً مسلك الخلق المحمدي الذي يلمسه أي جليسٍ يجالسه ”سهل العريكة فنفسه سهلة متواضعة ولا يشعر بذاته“ لذلك يمزح مع الجميع ويلقي الطرف من الحديث أمام الجميع ”رغم مستواه العالي من العلم والمعرفة لذلك هو بسيط يحب الجلسات والضحكات“ فهو بسيط ولكن عميق فعنده علم متضلع بالمعرفة في تخصصه علم النفس. وما يزين ذلك أنه ”هادئ الطبع، قليل الكلام، رزيناً وقوراً وقليل التدخل فيما لا يعنيه“ ويزن الأمور بموازينها فتجده متحفظاً عن إطلاق الألفاظ في غير محلها".
خاتمة في نقاط
الأمة التي تفخر بأبنائها أمة واعية وسليمة.. خصوصاً العلماء فالعلم أسمى ما في الوجود إذا قرن بالدين الصحيح والعمل الصالح.
العلوم تتفاضل بشرافة موضوعها ولكن في الواقع كل العلوم في حلقة واحد لتسير مسيرة الحياة.. المعصوم وحدة من هو محور ومصدر لكل العلوم وما سوى ذلك الكل في حاجة ماسة للأخر والأهمية والشرف بحسب تحقيق الهدف من الخلقة ”وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «56»“ «سورة الذاريات».
القدوة هم أولئك الذين يصلون بنا إلى القمة.. كلٌ في مجاله.. والمرجعية الرشيدة ترسم لنا كيف يجب على الأمة أن تنظر لعلمائها.. فالدين لا يزاحم بأي علم أخر ”هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ «7»“ «سورة آل عمران».. وكم من عالمٍ وصل إلى تبارك وتعالى بمعرفة سامية عن طريق العلوم التجريبية قد لا يصلها غيرهم فالشهود ليس كالصورة البسيط..
همسة حيدرية نجفية
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب «عليهما السلام»: ”إِيَّاكَ أَنْ تَسْتَخِفَّ بِالْعُلَمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزْرِي بِكَ وَيُسِيءُ الظَّنَّ بِكَ وَالْمَخِيلَةَ فِيكَ“ «4»







