الانتقام

قال الله تعالى: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله

يُعدّ الانتقام موضوعًا شائكًا ومتشعبًا، تتعدد أشكاله وتتنوع أساليبه، فمنه ما هو واضح ومباشر، ومنه ما هو خفي وغامض، وفي جميع الأحوال يوقع الإنسان في حيرةٍ من أمره في كثير من الأحيان. ويُعدّ الانتقام من أقدم السلوكيات الإنسانية التي رافقت الإنسان منذ نشأة المجتمعات، إذ يظهر غالبًا كردّ فعل على حدثٍ ما أو إيذاءٍ يقع على طرفٍ معين. غير أن أشكال الانتقام وأساليبه تختلف من شخصٍ لآخر، ومن بيئةٍ إلى أخرى.

وتشير التجارب الإنسانية إلى أن الانتقام، مهما كان شكله، نادرًا ما يمنح راحة دائمة؛ لأن السلام الداخلي لا يتحقق بإيذاء الآخر. ومن هنا، وقبل الخوض في تفاصيله، لا بد من تقديم مفهومٍ عام يقربنا من لبّ الفكرة.

تعريف الانتقام علميًا: هو سلوك إنساني نابع من الرغبة في إلحاق الأذى بالآخر، ردًّا على ضررٍ حقيقي أو متخيَّل تعرّض له الفرد، ويهدف غالبًا إلى تحقيق شعورٍ مؤقت بالعدالة، أو استعادة الكرامة، أو تفريغ الغضب الداخلي. وهو سلوك غير سوي، يحمل في طياته خطورة كبيرة على صاحبه، وعلى المقربين منه، وعلى المجتمع بأسره.

من المنظور النفسي، يرى علماء النفس أن الانتقام ينشأ من مشاعر الغضب الناتجة عن الظلم، أو الإهانة، أو الخذلان، أو غيرها من السلوكيات السلبية المتبادلة بين الأفراد. ويضاف إلى ذلك سوء الفهم، أو سوء الظن، أو سوء تقدير المواقف، مما يولّد حالة من الغضب المتراكم، يصاحبها تفكير مستمر في الانتقام، ويؤدي إلى ضعف القدرة على ضبط الانفعالات.

وقد يمنح الانتقام صاحبه شعورًا زائفًا ومؤقتًا بالارتياح النفسي، إلا أن هذا الشعور سرعان ما يتلاشى، ليترك خلفه مزيدًا من التوتر والعدوانية، وتعميق الصراعات، وتفكك العلاقات الأسرية والاجتماعية، وتعزيز ثقافة الكراهية والعداوة والثأر، وإثارة النزعات الاجتماعية والقبلية والأسرية، مما يطيل أمدها وربما يجعلها ممتدة إلى أجلٍ غير معلوم.

وفي المقابل، تدعو القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية إلى ثقافة الحوار، والتسامح، والعفو، وهي قيم سامية أشار إليها ديننا الحنيف في آياتٍ كريمة، وفي الروايات والأحاديث الشريفة، غير أن بعض الناس يغفلون عنها، ويتجاهلون أهميتها، وينساقون خلف أهوائهم، ظنًا منهم أن ذلك سبيل النجاة.

للانتقام أسباب متعددة، بغضّ النظر عن شكله، سواء كان بأساليب ناعمة أو بأساليب خشنة، مباشرة أو غير مباشرة، ومن أبرزها:

الشعور بالظلم أو الإهانة.

ضعف الثقة بالنفس.

التنشئة أو التربية القائمة على العنف أو ردّ الإساءة بالإساءة.

غياب ثقافة الحوار الإيجابي.

ضعف ثقافة التسامح والتعايش.

تراكم المشاعر السلبية، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية، كالتوتر الدائم، والقلق، وفقدان السلام الداخلي، وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب، وهو من أخطر المراحل النفسية التي لا تُحمد عواقبها.

في المقابل، توجد بدائل صحية وناجعة، على الصعيد الشخصي والأسري والاجتماعي، يمكن من خلالها التغلب على مشاعر الانتقام، دون إيذاء الآخرين، ومن أبرزها:

اللجوء إلى الحوار الهادئ القائم على المحبة والإنسانية.

التحلي بثقافة التسامح والتغافل، وهي قوة لا ضعف، كما يتصورها البعض.

إدارة العواطف والانفعالات السلبية بعقلٍ وحكمة، وتحويل الشحنات النفسية السلبية إلى طاقات إيجابية.

الاستعانة بذكر الله، والتوكل عليه، والإيمان بأن ما يجري لنا أو علينا إنما هو بقضائه وقدره.

التركيز على تطوير الذات بدل الانشغال بإيذاء الآخرين.

أثار استغرابي قبل أيام مقال قرأته لأحد الكتّاب بعنوان «زوجة تتمنى لزوجها الموت»، وهو مقال يعكس واقعًا مؤلمًا من مجتمعنا المعاصر. وقد دفعني للتساؤل: كيف يصل الأمر بزوجين تجمعهما أسرة وأبناء إلى درجة من الكراهية يتمنى فيها أحدهما موت الآخر؟

ألا يغيب عن مثل هؤلاء التفكير في مشاعر أبنائهم، وفي حجم الألم الذي سيعيشه الأبناء عند فقد أحد الوالدين، وهما مصدر الحنان، والحب، والأمان؟ كيف يتحول هذا الرابط الإنساني العميق إلى شعورٍ بغيض ومذموم، قد يقود مع الزمن إلى التفكير في الانتقام، حيث يغيب العقل، وتموت العاطفة، وتتلاشى القيم الإنسانية، مهما حاول صاحبها التظاهر بغير ذلك؟

الإنسان السوي يلفظ فكرة الانتقام، مهما كان حجم الأذى الذي تعرّض له؛ لأنه لا يرى فيه حلًا صحيًا، ولا مكسبًا حقيقيًا، ولا أجرًا ولا ثوابًا. وإن تحققت منه منفعة، فهي مؤقتة، يعقبها ندم وألم، وتورث البغضاء والكراهية، وتحول الإنسان من كائنٍ سوي إلى شخصٍ قاسٍ، بعيدٍ عن الرحمة.

أما القوة الحقيقية، فتكمن في العدل، والعفو، وضبط النفس، وإدارة الانفعالات بحكمة، بما يرفع من منسوب إنسانية الفرد، ويحافظ على الفطرة السليمة التي فطره الله عليها.

ومع اقتراب عامٍ جديد، لنجعل منه بداية نقية، مفعمة بالأمل، والتصالح مع النفس، والعفو عمن أساء إلينا. فلنترك خلفنا الغلّ والحقد والكراهية، ونستقبل أيامنا بقلوبٍ صافية، وثقةٍ بالله، وبأن الخير فيما نختاره لأنفسنا ولمن حولنا.

مع ملاحظة أن العام الجديد الذي يطلّ علينا عامٌ مميّز، إذ يبدأ بأشهرٍ حُرم، كلها خير وبركة، فحريٌّ بنا أن نجعل نصيبنا منها وافرًا من الخير، والتسامح، والعفو، والبركة، والطاعة لله سبحانه وتعالى. وأن نستقبلها بقلوبٍ نقية، ونوايا صادقة، وعزيمة على تصحيح المسار، وبناء علاقات قائمة على المحبة والسلام الداخلي.

وكل عام وأنتم بألف خير.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.