حين قال هشام: أخي يستحق كليتي… وأكثر

في قلب مدينة صفوى، حيث السكينة تنام على كتف الزمن، نبتت حكاية أُخوّة لا تشبه سواها… ليست حكاية مرضٍ فحسب، بل قصة حياةٍ تُهدى من قلبٍ إلى قلب، ووجعٍ تحوّل إلى ولادةٍ جديدة باسم التضحية.

🌿 البداية… حين تغيّرت خارطة الأيام

كان سلمان يخطو في دروب الحياة بثبات، يحمل أحلامه بهدوء، ويُخبّئ ابتسامته خلف تفاصيل الأيام البسيطة. حتى جاء ذلك اليوم الرمادي، الذي طرق فيه المرض باب جسده دون سابق إنذار.

نوبةٌ مفاجئة كشفت عن إصابته بفشلٍ كلويّ، ليبدأ بعدها مشوار الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع...

كل جلسةٍ كانت تنتزع من روحه شيئًا، وتترك خلفها ظلاً من التعب والأمل المنكسر.

يقول هشام، أخوه الأكبر، وقد بلّل صوته الحنين:

> ”كنت أراه يعود من جلسة الغسيل متهالكًا، بالكاد يتمكن من الحديث... ومع ذلك، كانت عيناه لا تزالان تتوهجان بالصبر. كأن الصبر اتخذ له مسكنًا دائمًا في قلبه.“

وفي كل مرّة، كان هشام يتمزق من الداخل، ويتساءل في صمت:

> ”كيف أساعده؟ كيف أرده إلى الحياة؟ كيف أوقف هذا الاستنزاف البطيء؟“

🫀 العرض… والتبرع غير العادي

ما إن انتشر الخبر في محيط الأسرة حتى انطلقت موجة من المبادرات الإنسانية النبيلة.

بادرت زوجة سلمان، بعينين دامعتين، تعرض كليتها. تبعتها أختها، ثم ابنة خالته، وحتى ابن خاله...

كلّهم أرادوا أن يكونوا الشعاع الذي ينقذ سلمان من عتمة المرض.

ثم تقدّم عصام، الأخ الأوسط، بلا تردد، وكذلك ابن العمة، وصديق مقرّب لا يكاد يفارقه منذ الطفولة...

كلّهم كانوا على أتم الاستعداد، وكأن المحنة أعادت صياغة معنى المحبة.

لكن الطب له منطقه الصارم، فقد جاءت الفحوصات صادمة:

لا أحد منهم مطابق.

كأن الأمل تعثّر عند أعتاب المختبرات.

وفي لحظة صمتٍ تسكن فيها الأرواح، نهض هشام فجأة، وكأن صوتًا داخليًا هتف فيه:

> ”دورك قد حان.“

نظر للجميع بعينٍ يملؤها العزم، وقال بهدوءٍ لا يخلو من الإصرار:

> ”سأتبرع له… أنا.“

لم تكن جملة عادية، بل وعدًا خرج من أعماق الأخوّة…

وكأن روحه قررت أنها لن تكتمل إلا بنبض أخيه.

بدأ هشام رحلة التحاليل، وتوالت الأيام ببطء، وازدادت معها حرارة الانتظار.

حتى جاء الطبيب، يحمل في نبرته مزيجًا من الدهشة والحذر:

> ”هشام… هناك شيء غير معتاد.“

تسارعت دقات قلبه، وأصغى كأن كل كيانه ينتظر الجواب.

قال الطبيب:

> ”قلبك في الجهة اليمنى من صدرك، وهي حالة طبية نادرة تُعرف بالقلب اليميني.“

أجاب هشام ببساطة وهدوء مفاجئ:

> ”أعلم… ولكن، هل أستطيع التبرع؟“

ردّ الطبيب بابتسامةٍ تُخفي خلفها تقديرًا عميقًا:

> ”نعم، يمكنك… لكنها ستكون عملية دقيقة للغاية، فريدة من نوعها.“

ابتسم هشام ابتسامة من يعرف طريقه رغم وعورته، وقال:

> ”ما دامت تُعيد الحياة لأخي… فهي بسيطة في عيني.“

في تلك اللحظة، كان عصام يُتابع الإجراءات عن كثب…

حتى جاءت المكالمة المنتظرة تُخبره بموعد العملية.

📅 اليوم الذي لا يُنسى

في صباح الخميس، 31 أغسطس 2023، تنفّس الزمن ببطء، كأن اللحظة تتهيّأ لكتابة صفحة نادرة في كتاب الحياة…

دخل هشام وسلمان غرفة العمليات في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، وكل خطوة نحو الباب كانت تُشبه وداعًا مؤقتًا، لكنه محمّل برجاء العودة بنورٍ جديد.

في الخارج، كانت العائلة تتحلّق كقلبٍ واحد…

جلس الوالدان، ودموعهما تنساب على خديهما بصمتٍ خاشع، يرفعان أيديهما إلى السماء لا يطلبان سوى السلامة…

كانت الأم تمسح دمعها بطرف عباءتها وتهمس:

> ”يا رب، لا تفجعني بولدي… أنت أرحم بهم من قلبي.“

وكان الأب يحدّق في الأرض، شفتاه تتحركان كأنهما يوقّعان عقدًا مع الله:

> ”اللهم إنك وهبتني أبناءً… فاحفظهم بحفظك، وردَّهُم إليّ سالمين.“

أما بقية أفراد العائلة، فقد كانوا يمسكون بالمسبحة أو الهاتف، كلٌّ على طريقته يلوذ بالدعاء، ينتظر أن يُفتح لهم باب من أبواب الرحمة.

كان القلق يتنقّل بينهم كنسمةٍ خفيفة لا تهدأ، تسكن العيون وتنبض في القلوب.

كل دقيقة تمرّ كانت دهرًا، وكل لحظة تساوي عمرًا…

حتى فتح الطبيب باب الأمل، وخرج ببشرى ترتجف لها الأرواح:

> ”العملية نجحت… هشام وسلمان كلاهما بخير.“

لحظةٌ واحدة كانت كافية ليغرق هشام في بكاءٍ لا يشبه سوى دموع الطهر…

بكاء الفرح، وبكاء الخلاص، وبكاء الحب الذي أعاد لقلبٍ آخر نبضه.

🏅 ما بعد النجاح… حين تنطق الأرواح

بعد الإفاقة، اقترب هشام من سرير أخيه، وأمسك بيده، وهمس بكلماتٍ تشبه دعاءً خاشعًا:

> "شكرًا يا أخي، لأنك قبلتني متبرّعًا... شكرًا لكل من وقف بجانبنا بالدعاء أو بالدمع.

أنا لم أمنحك كلية فقط، بل أعطيتك قطعة من قلبي... من عمري... من وجودي. "

لم يكن هشام بطلًا في قصة فقط، بل كان عنوانًا للرجولة الحقيقية، ورمزًا لأخوّةٍ ترتقي إلى مراتب النور.

هو نفسه هشام الذي يعرفه الناس كمصوّر محترف، عاشق للرياضة، حاضر في كل فعالية…

لكنه اليوم بات يُعرف في المجالس باسمٍ جديد:

> ”الأخ الذي أعاد الحياة… الأخ الأب.“

✨ الخاتمة… حين يصبح العطاء حياة

ليست قصة هشام وسلمان الأحمد مجرّد حدثٍ طبي، أو نجاحٍ جراحي… بل هي رسالة إنسانية خالدة.

إنها تهمس لكل أخ، لكل أخت، لكل قلب:

> ”الأخوّة ليست صلة دم… بل صلة روح.“

”والعطاء الحقيقي لا يُقاس بالكم… بل بمدى ما يُحييه من أرواح.“

في زمنٍ يتردد فيه الكثيرون عن التضحية، كان هشام شاهدًا حيًّا على أن الإنسان قادر على أن يُنقذ من يُحب، لا بالكلام… بل بالفعل.

أخصائي التغذية العلاجية