سطوة الرأي العام بين تشكيل الذائقة وتهميش القيمة
وقفت عند مفردةٍ استوقفتني كثيراً، وأخذت زاوية واسعة من تفكيري، بالرغم من تزاحم الأفكار وتعدد الاهتمامات، إلا أن هذه المفردة، بكل ما تحمله من دلالات، فرضت نفسها بقوة، ودعتني إلى تسليط الضوء عليها والبحث في معطياتها ومدلولاتها، إنها، سطوة الرأي العام.
في عالم تتداخل فيه المفاهيم وتتسارع فيه وتيرة التغيير، بات مصطلح ”الرأي العام“ من أكثر المصطلحات حضوراً وتأثيراً في شتى المجالات، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى الفنون، والرأي العام في جوهره يفترض أن يكون تعبيرًا جمعيًّا عن توجهات الناس ومواقفهم من قضايا معينة، لكنه في ظل التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام المتطورة، لم يعد مجرد انعكاس تلقائي، بل صار يشكل ويوجه بطريقة تتيح له أن يفرض سطوته، لما يحمله من تأثيرات واقعية تفرض حضورها في كل زاوية من زوايا حياتنا الثقافية والاجتماعية.
أرى أنه لم يعد مجرد مؤشر لاتجاهات الجمهور، بل تحولت إلى قوة طاغية تعيد تشكيل الذائقة، وتحدد ما يجب أن يُعجبنا، ومن يستحق التصفيق.
لقد أصبح للمحتوى التافه بريقٌ خاص، وللمهرجين مكانة تفوق أصحاب الفكر والمعرفة، لم تعد المعايير تبنى على الجودة أو العمق، بل على الانتشار والجدل والتسلية اللحظية، إنها سطوة تختزل النجاح في أرقام المشاهدات، لا في مضمونه.
منصات التواصل الاجتماعي، رغم أنها فتحت آفاق التعبير، إلا أنها دون رقابة ذاتية أو وعي نقدي، تحولت إلى أدوات لإعادة توجيه الذوق العام نحو التسلية السطحية والمحتوى الخفيف، على حساب القيم الفكرية والجمالية.
في ظل هذه البيئة، يجد المثقف الحقيقي نفسه غريباً، كأن صوته لا ينسجم مع الموجة، أو أنه يسبح عكس تيار لا يرحم.
هنا إلى أين نحن ما ضون؟
تكمن خطورة هذه السطوة في أنها لا تكتفي بعكس الواقع، بل تعيد إنتاجه وفق ما يخدم من يمتلك أدوات التأثير. ويأتي سؤالي: من الذي يصنع الرأي العام؟ وهل نحن ضحايا له، أم شركاء في تشكيله؟
في عالم تتحكم فيه الخوارزميات، بات لزامًا علينا أن نستعيد وعينا، وأن نعيد النظر في معاييرنا وتقييماتنا، فليس كل ما يعرض علينا يستحق المتابعة، وليس كل ”ترند“ يعكس قيمة.
ختامًا: إن سطوة الرأي العام اليوم لم تعد مجرد ظاهرة عابرة أو تأثير اجتماعي يمكن تجاوزه، بل تحولت إلى سلطة شبه خفية تُمارس رقابة ناعمة، وتُحدث انقلابًا في سلم القيم، لذا فإن المسؤولية باتت مشتركة، من جهة وسائل الإعلام وصنّاع المحتوى، ومن جهة أخرى المتلقّي العادي، الذي لا بد أن يدرك دوره في تغذية هذه السطوة أو الحد منها.
ففي نهاية المطاف، ليست المعركة بين التافه والمثقف، بل بين وعي يختار بإنصاف، وجمهور يساق بلا مساءلة.
ولعل أول خطوة في مقاومة هذه السطوة، هي أن نعيد لأنفسنا حق السؤال: لماذا نُعجب؟ وبِمن نُعجب؟