لماذا نكره التغيير
اعتقد جازماً أن كثيراً من الناس لا يكرهون التغيير لأنه سيئ أو مرهق أو غامض فحسب، بل لأنهم ببساطة شديدة لا يعرفون كيف يتعاملون معه أو لأنهم يخشون تبعاته غير المتوقعة، ولهذا يتشبث البعض بالروتين والعادات والتقاليد المألوفة، ليس حباً بها بقدر ما هي وسيلة لتسكين القلق والخوف من الخروج إلى مساحات مجهولة وغير مألوفة.
فالتغيير في جوهره ليس مجرد قرار طارئ أو حدث عابر بل هو حالة ذهنية وجدانية تهز أعماق الإنسان وتُزعزع استقراره، وما يبدو على السطح من رفض أو تردد، غالباً ما يخفي وراءه عالماً من المخاوف والصراعات النفسية، والضغوطات الاجتماعية والثقافية التي تجعل من كل تحول مهما كان بسيطاً تجربة مقلقة ومربكة.
ومن هنا نفهم أن مقاومة التغيير ليست دائما عناداً أو جموداً أو خوفاً غير مبرر، بل هي في كثير من الأحيان محاولة بشرية فطرية للبقاء في منطقة نشعر فيها بالتحكم، ولو كان ذلك الشعور مجرد وهمٍ نختبئ خلفه
ولهذا السبب وغيره، نجد أن التغيير حتى وإن كان إيجابيا ًوضرورياً غالباً ما يُستقبل بمشاعر القلق أو التوجّس لأن الدماغ يربطه تلقائياً بعدم اليقين وفقدان السيطرة، ولذلك يصبح التغيير مصدراً للقلق والممانعة لا لعيب فيه بل لأنه انعكاس طبيعي لطبيعة النفس البشرية الميّالة إلى الثبات والشعور بالأمان.
التغيير قدر لا مهرب منه
ومع ذلك، ورغم كل هذه المشاعر الطبيعية يبقى التغيير سُنة كونية وقانوناً من قوانين الحياة التي لا مفر منها فهو لا يستأذن ولا ينتظر استعدادنا له، بل يفرض نفسه أحياناً بصورة أزمة قاسية، أو في صورة فرصة متنكرة. وقد علّمنا التاريخُ أن من يتصالح مع التغيير أفراداً كانوا أُمماً، هم من يملكون مفاتيح التقدم والبقاء أما أولئك الذين قاوموه بعناد وانكمشوا داخل قوالب الثبات فقد وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف خارج دائرة الفاعلية والتأثير، وظلّوا على هامش الحياة.
والسؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه هنا:
لماذا نتمسك بالثبات ونخشى التحول حتى عندما يكون التغيير في صالحنا؟ ولماذا نفضّل الراحة الوهمية على التقدم الحقيقي؟ وكيف نحول التغيير من شبح مقلق إلى قوة دافعة للنمو؟
التشبث بالمألوف: هروب من المجهول لا بحث عن الأمان
إذا أردنا أن نفهم لماذا نتمسك بالثبات ونخشى التغيير حتى لو كان لصالحنا فإن الأمرلا يقتصر فقط على الاعتبارات الفردية أو النفسية، بل قد يتعداها إلى ابعاد اكثر عمقاً وتعدداً كالتنشئة وضغوط المجتمع والثقافية والرغبة في السيطرة، والخوف من المجهول، والتجارب السابقة، والعادات المتأصلة التي تشكل حاجزاً داخلياً صلباً أمام أي تحوّل محتمل، فضلا عن البُعد التكنولوجي، والاقتصادي، والقانوني والتنظيمي الذي يُعرقل أو يُؤخر التغيير داخل المؤسسات أو المجتمعات، بل عن شبكة متداخلة ومتشابكة من الاعتبارات والمؤثرات، ومع ذلك، فإن إدراكنا لهذه العوامل ينبغي ألا يكون مبرراً للاستسلام، بل دافعاً لفهم الذات وتطويعها نحو التغيير الإيجابي
منطقة الراحة: الحصن الآمن أم القيد الخفي
أعترف أنني كثيراً ما تساءلت مع نفسي لماذا نتمسك بما نعرفه حتى وإن لم يكن الأفضل؟ ولماذا نتردد أمام كل خطوة جديدة وكأننا على حفة الهاوية؟
وقد وجدتُ أن تفضيلنا لمنطقة الراحة، وهي ”المساحة التي يشعر فيها الإنسان ُ بالطمأنينة والتحكم“ ليس مجرد كسل او تردد، بل نتيجة لمزيج من المشاعر والتجارب التي تترسّب في أعماقنا، وتتحكم في قراراتنا دون أن نشعر، وهنا تذكرت رواية جميلة عن الإمام الصادق يقول فيها ”من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم يرى الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة“ وهو كلام عميق وواضح ينسف فيه الإمام
، وهمّ الثبات ووهم الاستقرار، ويدعو إلى التغيير والنمو المستمر، ولعل من أبرز أسباب التشبث بالثبات التي توصلت إليها في هذا الصدد هو ما يلي:
1 - الخوف من الفشل وفقدان السيطرة
البقاء في نفس الوضع وعدم الإقدام على التغيير، لا ينبع دائماً من الكسل أو اللامبالاة، بل غالباً ما يكون مدفوعاً بخوف داخلي عميق يتمثل في الخوف من الفشل والذي يعني تجنّب أي خطوة جديدة أو مغامرة قد تضعهم في مواجهة مع الإحباط، أو نظرات الآخرين، أو حتى مع أنفسهم حين يشعرون بالعجز، فالناس غالبا ما يربطون قيمتهم بالنجاح الظاهري، وعندما يفكرون في التغيير يتخيلون السناريو الأسوأ ”السقوط“، ”الإخفاق“ الانتقاد " أو فقدان ما يملكونه من استقرار نسبي، فيختارون البقاء في منطقة الأمان حتى وإن كانت تخنق أحلامهم، وتكتم قدراتهم خوفاً من انكشاف ضعفهم أمام أنفسهم أو أمام الآخرين.
2 - الارتباط النفسي الزائف بالأمان
وهو تمسك لا شعوري بالحالة الراهنة سواء كانت وظيفة أو نمط حياة أو علاقة، لأنها تمنح الفرد أو المجتمع إحساساً بالاستقرار، ولوكان زائفاً، فالإنسان بطبعة يبحث عن ”الطمأنينة“ وعقله يفضل البيئة التي يمكنه التنبؤ بها والسيطرة على ظروفها حتى وإن كانت غير سعيدة أو محفوفة بالمشاكل.
3 - الضغط الاجتماعي والتوقعات الجمعية
وهي حالة نفسية يشعر بها الفرد حين يكون محاطاً بمراقبة غير مرئية من الآخرين تتجلى في نظراتهم وآرائهم وتعليقاتهم بل وحتى في صمتهم.
أما التوقعات فهي تلك الصورة الذهنية التي يرسمها المجتمع عن الشخص المحافظ الذي لا يُسمح له بأن يتغير أو يُعبّر عن نفسه خارج المألوف، وكأنه مقيّد بهوية صنعها الآخرون عنه، لا يستطيع أن يتنفس خارجها، وإلا وُصف بالتبدل أو التراجع أو ”ضياع الخط“
ومن هنا يمكن أن نقول إن منطقة الراحة ليست مشكلة في ذاتها بل في التعلّق بها بشكل مفرط، فهي قد تمنح الإنسان شعوراً مؤقتاً بالأمان النفسي لكنها في المقابل قد تقيّد النمو والتجديد إذا تحولت إلى أسلوب حياة دائم.
فالأمان الحقيقي لا يكمن في الثبات وإنما في المرونة الواعية، والقدرة على اتخاذ القرار الذي يُعبّرعنك.. لا عن توقعات غيرك.
التغيير... نقطة انطلاق لا سبب للتراجع
قد يظن البعض أن الحديث عن التغيير مجرّد تنظير نخبوي بعيد عن الواقع، لأنه يُقدّم غالباً بلغة مثالية، ومن اشخاص يعيشون ظروفاً مختلفة تماماً عن عامة الناس، ولكن هذا الظن وإن كان مفهوماً ليس دقيقاً تماماً
فالحقيقة أن التغيير لا يقتصر على ”النخبة“ أو أصحاب النفوذ والفرص، بل هو ممكن ومتدرج ويأخذ اشكالاً كثيرة تتناسب مع مختلف الناس حسب قدراتهم وظروفهم، كما أن التغيير لا يعني قلب الحياة راساً على عقب بل قد يبدأ بخطوة بسيطة أو فكرة جديدة أو مهارة صغيرة أو حتى طريقة جديدة في التفكير.
ولذلك إذا أردنا أن نكسر هذا الحاجز علينا أن نتحدث عن التغيير بلغة الناس ومن واقعهم وبأمثلة من بيئتهم مع الاعتراف بالصعوبات لا بإنكارها، وتقديم خطوات عملية تناسب مختلف الشرائح لا وصفات جاهزة لا تصلح إلا لقلة قليلة، وبالتالي فإنني اعتقد أن الناس لا يرفضون التغيير كتغيير ولكن يرفضون الطرح الغير واقعي الذي لا ينسجم مع ما يمرون به من تحديات وضغوط.
وأخيراً يمكننا أن نقول:
نحن لا نكره التغيير لأنه خيار صعب أو لأنه مؤلم، أو لأنه مجهول وإن كان كذلك في بعض الأحيان، بل لأننا في الغالب لم نُدرّب على التعامل معه، أو لم نتعلّم كيف نُخطط له، ولا كيف نتحمل نتائجه، فقد نشأنا على الخوف من الخسارة لا على الاستعداد للمواجهة، وعلى التمسك بالمعتاد لا على التفكير بالبدائل، ولهذا أصبح التغيير بالنسبة لكثير من الناس عبئاً نفسياً ومصدر قلق لا فرصه أو خطوة نحو التحسّن
لكن الحقيقة من لم يتغيّر بإرادته سيتغيّر رغماً عنه، وأن التغيير قادماً على كل حال، ومن أراد أن يبقى كما هو فليتأكد أن الحياة لن تتوقف في انتظاره.