الحاج عبدالله.. بين أربعة جدران

كان الحاج عبدالله يومًا ما عمود البيت وبهجته، رجلًا تغشاه المهابة وتحيط به المودّة. كريمُ اليد، رقيق القلب، لا يردّ سائلاً ولا يكسر خاطر محتاج. عرفه الناس بالسماحة، وعرفت أسرته فيه المأوى والأمان.

لكن جلطة دماغية باغتته منذ ثلاث سنوات، فانطفأت أنوار قوته، وأقعدته جسدًا واهنًا بين أربعة جدران ضيقة. ومنذ ذلك اليوم تبدّل كل شيء…

الغرفة التي تشبه السجن

جلس الحاج عبدالله صامتًا في غرفته، كأن الجدران تضيق عليه شيئًا فشيئًا. الأنين يخرج منه خافتًا، يختبئ وراء صمته الكبير. أبناؤه يمرّون مرّ العابر، وزوجته التي شاركته عمرًا من العشرة، لم تعد ترى في بقائها قربه إلا حملاً ثقيلًا.

وذات مساء، جلست على طرف السرير متجهمة، وانفلتت من فمها كلمات جارحة:

— ”إلى متى سأبقى هنا معك في هذه الغرفة التي تشعرك بالمرض؟ لقد سئمت من هذا الحال!“

تكسّرت الكلمات في قلبه كما يتكسر الزجاج تحت المطرقة، فلم يجد جوابًا إلا دمعة انسلت على وجنته، تحمل أنين الجسد ووجع الروح وخذلان العمر.

أعذار الأبناء

حين حان موعد المستشفى والعلاج الطبيعي، جلس الحاج عبدالله بانتظار أحد أبنائه. لكن الأمل تهاوى تحت وقع الأعذار المتتابعة:

الأكبر قال: ”لديّ موعد مع عائلتي في المستشفى الآخر.“

الثاني: ”دوامي لا يسمح لي بالخروج.“

الثالث: ”اليوم عندي التزامات مع الأصدقاء.“

أما الرابع فقال ببرود: ”سيارتي في الورشة.“

غرسوا سهام اعتذاراتهم في قلبه، فجلس صامتًا، يسمع صدى القسوة يدوّي في صدره.

خطوبة الابنة

وفي يوم آخر دخلت الزوجة وقالت ببرودٍ جليدي:

— ”لقد جاء شاب يخطب ابنتنا… وهي موافقة. رتبنا كل شيء، وستقام حفلة الخطوبة ليلة الجمعة القادمة.“

رفع الحاج عبدالله عينيه نحوها، تحملان وجعًا وعتابًا، كأنهما تصرخان:

”أتريدين مني أن أطلب منكم تأجيل الفرح حتى أشفى؟! ماذا تنتظرون مني بعد أن أتممتم كل شيء؟“

كانت عيناه تنطقان بما عجز عنه لسانه: أيعقل أن يمرّ الفرح فوق جراحه دون أن يحسبوا لنبضه حسابًا؟

أفراح في غياب صاحبها

أقيمت الحفلة، وتعالت أصوات الغناء والضحك، بينما كان الحاج عبدالله خلف بابه المغلق، يترنح بين ذكر الله وصمتٍ يابس، وبين ذكريات الوفاء وخيبات الحاضر.

زيارة الطب المنزلي

جاء فريق الطب المنزلي، ففوجئوا بتدهور حاله. قال الطبيب معاتبًا ابنه الأكبر:

— ”أين أنتم عن علاج والدكم؟ لماذا لا تحضرون مواعيد العلاج الطبيعي؟“

ثم أضاف بنبرة أسى:

— ”ليس هذا فحسب، بل إن والدكم مصاب بالاكتئاب… ألم تلاحظوا ذلك؟“

صمت الابن، وعجز لسانه عن تبرير هذا الإهمال.

موقف العم

جاء عمّ الأولاد من الرياض، فلم يتمالك نفسه وهو يرى ما آل إليه أخوه. صاح في وجوههم بحرقة:

— ”أهذا جزاء والدكم؟! رجلٌ أفنى عمره وجهده لأجلكم، واليوم تتركونه هكذا؟!“

لكن القلوب القاسية لم تلِن، وبقي الحاج عبدالله أسير وحدته، بين مرضٍ ينهش جسده ووجع خيانة الأحبة.

العبرة

لم تكن مأساة الحاج عبدالله في الجلطة التي أقعدته، بل في الجفاء الذي جرحه من أقرب الناس إليه. إن الوفاء لا يُختبر في أيام العافية، بل في لحظات المحنة والابتلاء.

أخصائي التغذية العلاجية