كيف نُعيد بناء الروح الجماعية
الإدارة روح قبل أن تكون نظاماً
لم تعد الإدارة في عصرنا الحالي مجرد تنظيم للأعمال أو اصدار للأوامر والتعليمات، بل غدت فنّاً راقياً يتجاوز البُعد الوظيفي إلى صياغة الإنسان نفسه، عبر توحيد الطاقات البشرية وتوجيهها نحو الهدف المشترك والغاية السامية، ولهذا عُرّفت في الأدبيات الإدارية بأنها ”تنظيم نشاط بشري جماعي هادف“ وهي بهذا المفهوم تتسم بسمات اساسية أربعة ”التنظيم، والإنسانية، والجماعية، والهدفية“
فالتنظيم: يمنع تشتت الجهود ويقوّي الانضباط ومن دونه تضيع الطاقات ويختلط العمل بالعشوائية والإنسانية اعتراف بأننا نتعامل مع بشر لهم مشاعر وتحفيزات وتطلعات، وليس مع مجرد أدوات أو آلات والهدفية: تمنح العمل معنى يتجاوز التقليد والروتين وترسم له غاية واضحة ومساراً محدداً. أما الجماعية: فهي الروح التي توحّد كل هذه الركائز وتحوّل المؤسسات من مجموعات متفرقة إلى كيان واحد متناغم
واقع المؤسسات الآن
ولو تأملنا واقع مؤسساتنا اليوم لوجدنا أن هذه الركائز الأربع لا تعمل جميعها بنفس القوة أو التناسق، فالتنظيم موجود في اللوائح والإجراءات، والهدفية معلنة في الرؤية والرسالة وعلى الورق الرسمي، والإنسانية تظهر في المبادرات الفردية هنا وهناك، لكن الركيزة الأكثر ضعفاً هي الجماعية ومع أفولها يبدأ كل موظف بالعمل كما لو أنه في سباق منفرد، فيتبدد الهدف الجماعي إلى أهداف فردية مُتعددة وتغيب كلمة ”نحن“ لتحل محلها كلمة ”أنا“ وهذا ما أشار إليه بيتر دراكر عندما قال ”القائد الحقيقي يجعل الناس يرون أنفسهم جزءاً من إنجاز أعظم منهم“ مؤكداً ان القيادة الفعالة تبدأ بتوحيد الجهد وليس بإصدار الأوامر فقط.
مظاهر غياب الروح الجماعية
لا أُبالغ إن قلت إن غياب الروح الجماعية يشكل تهديداً وجوديا للمؤسسات والفرق، بل أزمة عميقة تتجلى في عدة صور منها
التآكل التدريجي للتعاون: ووفقاً لتقرير جالوب 2022م فإن 40 % من الموظفين عالمياً لا يشعرون بالارتباط بزملائهم مما يؤشر على وجود أزمة انسجام جماعي عميقة.
الهيمنة الفردية: حيث يتحول الفريق إلى مجموعة أفراد يعملون بشكل منفصل كل ُ في اتجاههُ الخاص وكأنهم جزر معزولة لا تجمعهم روابط التعاون الحقيقية، وقد حذر الإمام علي من هذه الحالة بقوله " إياكم والفرقة: فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب «غرر الحكم ودرر الكلم»
وكما أن النعجة الشاذة عن القطيع تصبح فريسة سهلة للذئب، فإن الموظف المنعزل عن فريقه يصبح عرضة للفشل والإحباط وتُضعف مساهمته في تحقيق الأهداف المشتركة.
التجربة اليابانية كنموذج
لقد حوّل اليابانيون العمل الجماعي من نظرية إدارية إلى عقيدة ثقافية، فمن خلال مبادئ مثل ”الرينغي“ وهو أحد أُسس عملية صنع القرار داخل المؤسسات والشركات اليابانية، والذي يعني ببساطه شديده تجسيد حي لمقولة ”الإدارة ليست إصدار أوامر، بل توحيد جهود“.
حيث يعقد الموظفون اجتماعات أسبوعية للمشاركة في حل المشكلات بشكل تعاوني، وبناءً على إحصائيات وردت في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن الشركات اليابانية تستثمر ما متوسطه 120 ساعة تدريبية سنوياً لكل موظف على العمل الجماعي وبناء الفريق، وليس فقط في المهارات التقنية، ونتيجة لهذا تُشير دراسة أخرى لمعهد ماكس بلانك الألماني إلى أن الفريق الياباني المتعاون أكثر إنتاجية بنسبة 50% من مجموعة أفراد يعملون بشكل منفصل في نفس البيئة.
وهذا النجاح بالطبع لم يمر مرور الكرام أمام الغرب، ففي الثمانينيات، حينما هزت الصناعة اليابانية الأسواق العالمية قامت أمريكا بدراسة الظاهرة واستيراد مفهوم العمل الجماعي على نطاق واسع فشركات مثل فورد وجنرال إلكتريك تبنت فلسفة ”إدارة الجودة الشاملة“ TQM TOTAL QUALITY MANAGEMENT - من اليابان وطوعتها للثقافة الأمريكية وهي: فلسفة إدارية شاملة وممنهجة تركز على تحقيق رضا العميل على المدى الطويل من خلال مشاركة جميع أفراد المنظمة في تحسين العمليات والمنتجات والخدمات والثقافة التنظيمية.
الواقع العربي: إشكاليات وحلول
أما في المشهد العربي فالصورة أكثر تعقيدا وتناقضاً، فمن ناحية تتمتع مجتمعاتنا برصيد ثقافي غني قائم على قيّم القبيلة والعائلة والترابط والتعاون التي يمكن أن تكون نواة قوية للعمل الجماعي، ولكنها وللأسف غالباً ما تفشل مؤسساتنا في ترجمة هذه القيم الطبيعية إلى بيئة عمل مهنية حديثة وفعالة.
ففي العديد من المؤسسات العربية لا تزال ”الثقافة البيروقراطية“ و”القيادة المتسلطة“ هي المسيطرة، فالقرار يأتي من الأعلى والموظف في الأسفل مجرد منفذ، إضافة إلى ”ثقافة الخطأ عيب“ والمحسوبية والواسطة والتي تقوض مبدأ تكافؤ الفرص وتقتل الدافع لدى الكفاءات، فلماذا يتعاون الموظف المتفاني إذا كانت الترقية من حصة شخص آخر لا يستحقها
ولكن الصورة ليست قاتمة بهذه الدرجة، فهناك ثمة نماذج عربية لامعة استطاعت أن تكسر هذه القاعدة وتبني ثقافة العمل الجماعي كتجربة ”الخطوط الجوية القطرية“ في قطر، وتجربة ”مجموعة نما“ العُمانية ”وغيرها من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا مثل“ مقر ”في السعودية أو“ فاست أفليكيتور" في مصر وما شابه
الأرقام لا تكذب
وفقاً لاستبيان ”بيت كوم“ لعام 2023م هناك أقل من 35% من العرب يشعرون أن بيئة عملهم تشجع على التعاون بفعالية، فيما أرجع 52% من المشاركين الصراعات الداخلية إلى غياب وضوح الأدوار وانهيار العمل الجماعي مما يؤشر على أن المشكلة ليست في شعبنا بل في الأنظمة الإدارية المتخلفة التي تخنق روح التعاون لدينا
استراتيجيات عملية لتعزيز الروح الجماعية
إن غياب الروح الجماعية وتباعد القلوب والأفكار في مكان واحد ليست مجرد مشكلة عابرة، بل هي واقع مرير تعيشه كثير من فرق المؤسسات وحتى الأسر، في مجتمعاتنا للأسف الشديد بحيث يحولها من كيانات حيّة نابضة إلى هياكل فارغة بلا روح، ولعل من أبرز الاستراتيجيات الفعّالة لتعزيز الروح الجماعية هي:
1 - تطبيق القيادة الخادمة: أي أن يكون المدير داعماً لفريقة أو لمرؤوسيه، فمهمته توفير الدعم وإزالة العوائق وليس إصدار الأوامر وهذا ما حدث بالفعل في إحدى شركات التكنولوجيا الرائدة في سنغافورة بحيث يخصص المدير التنفيذي ساعات مكتبية أسبوعية ليس لمراجعة الأداء بل للاستماع إلى تحديات فريقه الشخصية والمهنية ويقوم بتذليلها أو توفير الموارد اللازمة لها محولا ً دوره من ”رئيس يصدر التوجيهات إلى شريك يُمكّن فريقه من الإنجاز“
2 - بناء البيئة الآمنة: كتطبيق شركة ”بريكتكس“ الهولندية ”لتطوير البرمجيات، مبدأ“ فشل سريع.. تعلّم أسرع ”ففي بداية كل اجتماع لمراجعة مشروع ما يبدأ الفريق بمناقشة الأخطاء والإخفاقات التي واجهتهم خلال الأسبوع، ويقومون بتكريم“ خطأ الشهر " الذي قدم أكبر فائدة تعليمية للفريق
3 - إعادة تصميم أنظمة العمل والمكافآت: بحيث لا يستطيع أحد أن ينجح بمفردة، وجعل المكافآت والترقيات تعتمد على أداء الفريق وليس الفرد فقط كتجربة شركة الاتصالات السعودية STC في برامج ”الإدارة بالأهداف“ حيث يصبح نجاح الزميل ضرورة لنجاحك الشخصي مما يعيد تعريف مفهوم ”المنافسة“ ليكون تنافساً بين فرق وليس بين أفراد.
4 - توظيف القيم العربية الأصيلة: وذلك للاستفادة من قيمنا العربية الأصيلة مثل الكرم والتضامن في تحويل الولاء للعائلة إلى الولاء للفريق وتحويل التكافل الاجتماعي إلى مساندة للزملاء في العمل
وأخيراً...
نختتم رحلتنا في البحث عن بناء الروح الجماعية بقصة المدير الذي غيّر مصير 7000 موظف... وعلّم العالم معنى ”الإنسانية في الإدارة“ عندما فضّل الإنسانية على الأرقام في أزمة 2008 م فبدلاً من تسريح الموظفين طرح فكرة الإجازة غير المدفوعة للجميع قائلا ”نعاني قليلاً ولا يعاني البعض كثيراً“ وهكذا تحولت الأزمة إلى انتصار إنساني: وفرت الشركة فيها ضعف المبلغ المستهدف، وحافظت على كل موظف