المستحيلُ رأيٌ وليس قانوناً
يُروى عن القائد الفرنسي نابليون بونابرت أنه كان يتعامل مع كلمات الناس باعتبارها مؤشراً على استعدادهم لا حكماً نهائياً على الواقع، فمن قال امامه ”اعلم“ أجابه ”تعلّم“، ومن قال له ”هذا صعب“ قال له ”حاول“، ومن قال له ”غير ممكن“ قال له ”جرّب“، أما من قال له ”مستحيل“ فكان يُجيبه ”اقترب منه أكثر... وستكتشف أنه ليس كما تعتقد“.
كان يدرك بأن الجهل ُيعالج بالتعلّم، وأن الصعوبة تُذلّل بالمحاولة، وأن ما يبدو غير ممكن يُختبر بالتجربة، وأن الاستحالة تنهزم حين نقترب منها بدل أن نقف بعيداً عنها.
لكن يبقى السؤال:
لماذا يرى كثيٌر من الناس أن المستحيل حقيقة ثابتة أو قاعده لا يمكن تجاوزها؟ ولماذا يتعاملون مع حدود قدراتهم وكأنها مُحددة سلفاً ولا يمكن تغييرها؟ وما خطورة هذا الاعتقاد على القائد أو المدير؟ وكيف يمكن تغييره؟
معنى المستحيل لغوياً
المستحيل لغوياً: هو ما لا يمكن تصوّره عقلياً، كالجمع بين النقيضين في لحظة واحدة، أو العودة بالزمن إلى الوراء بإرادة فردية، أو وجود الشيء ونقيضه في اللحظة نفسها، وهذا النوع ليس محل نقاشنا.
أما المستحيل مفهوميّاً: فهو ما يبدو غير ممكن ضمن معارفنا أو أدواتنا الحالية، لكنه قابل للتحقق أذا تغيرت الشروط أو الظروف أو بتطوير الأدوات والمهارات، أي إنه غالباً رأي نابع من محدودية الرؤية لا من حقيقة الواقع، وهذا هو محور حديثنا تحت عنوان ”المستحيل رأيٌ وليس قانوناً“
لماذا يراه الناس حقيقة ثابته
على الرغم من أن المستحيل بمفهومه النسبي ليس قانونا حتميا إلا أن الكثير من الناس يتعاملون معه وكأنه حداً نهائياً لا يمكن تجاوزه، وهذا الاعتقاد لا ينشأ من الواقع، بل من طريقة التفكير، وقلة التجربة، والقيود التي تفرضها البيئة، فالناس غالباً لا يرفضون الفكرة لإنها مستحيلة فعلاً، بل لأنهم لا يملكون الأدوات الذهنية أو النفسية أو العملية لرؤيتها ممكنه.
وهكذا يتحوّل المستحيل في أذهانهم إلى ”حقيقة ثابتة“ بينما هو في الواقع حاجز نفسي أكثر منه حاجزاً في الواقع، وفيما يلي أبرز العوامل والأسباب لهذا الاعتقاد:
1 - الميل إلى الأمان وتجنب المجهول
الإنسانُ بطبيعته ينجذب إلى ما يعرفه، ويخشى ما يجهله، بل ويُفضل البقاء داخل دائرة المألوف، ولذلك تُفسر أي فكرة جديدة أو غير مجرّبة على أنها مخاطره تجلب الفشل أو الإحراج أو اللوم، فيُصنّفها العقل مباشرة ضمن ”المستحيل“ فكم من موظف أو معلم أو مدير بقي لسنوات طويلة في الوظيفة نفسها لأن مجرد التفكير في منصب جديد أو مسؤولية أكبر يجعله يشعر بأن الأمر خارج حدود قدرته، وكما يقول المثل الشعبي المعروف ”خليك على المجنون لا يجئك اللي أجنّ منه“، وهو مثلُ يعكس بوضوح الميل النفسي للبقاء في المنطقة المألوفة مهما كانت ضيقة، ولذلك يظل كثيرون سجناء ”منطقة الراحة“ لا لضعف إمكاناتهم، ولا لعجز قدراتهم، وانما لقوة مخاوفهم التي تكبلهم قبل أن يختبروا أنفسهم
2 - تحوّل التجارب الفاشلة إلى قناعات نهائية
الفشل الطبيعي الذي يُفترض أن يكون معلماً وموجهاً للإنسان يتحول عند البعض إلى حكم دائم بأن ”هذا الشيء لا أستطيع فعله“ فمن يتراجع عن تعلم لغة جديدة أو مهارة تقنية، أو حتى ممارسة رياضة معيّنة بعد تجربة قصيرة على سبيل المثال، يعلن مباشرة ”أنا لا أصلح لهذا“ بينما الحقيقة أن الاتقان أو اكتساب العلم أو المعرفة أو المهارة يحتاج إلى وقت واستمرارية وطريقة تفكير مناسبة.
وقد اشارت إحدى الدراسات المتعلقة بتعلم المهارات إلى أن معظم المتعلمين يتوقفون خلال الأسابيع الأربعة الأولى قبل الوصول إلى مرحلة ”الفهم العميق“ التي تبدأ عادة بعد الأسبوع السادس من التدريب المستمر، أي أن الفشل المبكر طبيعي... لكنه ليس حكماً نهائياً.
3 - الرسائل الاجتماعية التي تُقزّم الإمكانات منذ الصغر
حين يتلقى الطفل منذ سنواته الأولى مراراً عبارات تقلل من شأنه مثل ”انت لا تصلح لهذا“ أو ”أمثالك لا ينجحون“ أو ”هذا ليس من مستواك“ وغيرها من الكلمات المثبطة فإن هذه الرسائل رغم بساطتها تُعيد تشكيل عالمه الداخلي وتُحدد سقف طموحاته قبل أن يكتشف قدراته.
ومع تكرار هذه العبارات تتكون لدى الطفل صورة ذهنية ضيقة عن نفسه، فيتعامل مع تلك الحدود وكأنها جزء من الواقع، بينما هي في الحقيقة انعكاس لتوقعات المجتمع لا لقدراته الحقيقية.
وحتى وقت قريب جداً كان يُنظر في بعض البيئات إلى مشاركة المرأة في مجالات القيادة أو العلوم المتقدمة بوصفها أمراً بعيداً أو ”غير متوقع“ ومع تغير النظرة الاجتماعية وتوسع فرص التعليم والعمل، أثبتت المرأة حضوراً لافتاً في الطب والهندسة والإدارة والابتكار، وأن هذا التحول يؤكد مما لا يدع مجال للشك أن ما كان يُسمّى ”استحالة“ لم يكن سوى رأي اجتماعي لا حقيقة ثابته
4 - الخلط بين كلمة ”صعب“ وكلمة ”مستحيل“
الكثير من الناس يظنون أن ما يحتاج جهداً كبيراً أو وقتاً طويلاً أو تعلماً إضافياً هو أمر ”مستحيل“ وهذا خلاف للواقع، فالاختلاف بين الصعب والمستحيل كالاختلاف بين الجبل والسماء، فالصعود إلى الجبل صعب.. ولكن الوصول إلى السماء بلا أدوات وتقنيات مستحيل، والمشكلة أن البعض يضع الامرين في كفة واحدة
5 - الخوف من الفشل أقوى من الرغبة في النجاح
في كثير من الأحيان، لا يمنع الإنسان من التقدم وجود حواجز حقيقية أو عراقيل معينة، فهي شيء طبيعي في مسيرة الحياة، بل خوفه من النتائج إن حاول ولم ينجح، فالفشل في ذاته ليس المشكلة، بل في الصورة التي رسمها المجتمع للفشل حيث النقد اللاذع والنظرة المحبطة والشعور بالانكسار أمام الاخرين. وحين يتضخم هذا الخوف يصبح إعلان الاستحالة هو الخيار الاسهل... لأنه يُجنّب الإنسان مواجهة احتمالات السقوط.
حين يُصبح القائد جزءا من المشكلة لا جزءاً من الحل
القائد الذي يتعامل مع المستحيل كقانون مقدّس غالباً لا يجمّد فريقه فحسب... بل يُجمّد روح المنظمة أو المؤسسة التي ينتمي لها، لأن إيمان القائد بالمستحيل ينتقل إلى الجميع دون أن يتكلم، ولذلك فإن القيادة ليست أوامر وتعليمات فقط، بل هي حالة نفسية تنعكس على الفريق بشكل عام فهو سقف الطموح، والقدوة والامل وعندما يعتقد أن ما لا نعرفه مستحيل فإن العقول تتوقف عن السؤال والبحث والاكتشاف فتتحول المؤسسة إلى جسد يعمل بلا روح
غير رأيك... يتغير العالم من حولك
حين يدرك القائد والأنسان عموماً أن المستحيل ليس قانوناً ولا قاعدة ثابتة، حينها تبدأ مرحلة التحول الحقيقي فالإدراك هو الوعي بالمشكلة والوعي بالعادة والوعي بالفكرة التي تحتاج إلى التعديل، أي أن ترى الواقع كما هو بدون إنكار أو تبريرا مبالغة، بل هو الخطوة الأولى نحو أي تغير أو أي تطور في حياتك، وحين تتغير حياتك تتغير إمكاناتك وقراراتك، ومستقبلك، وكل ماكنت تظنه يوماً أنه مستحيلا ً.
وكما قال الزعيم الافريقي ”نيلسون مانديلا“ يبدو الأمر دائماً مستحيلاً... إلى أن يُنجز ”وفي المثل الشعبي المعروف“ رُبّ همةٍ أحيت أمة"
كيف نُغير هذه النظرة
إن ما نفهمه اليوم ”مستحيلاً“ ليس سوى حدّ عقلي نرسمه نحنُ داخل عقولنا، لا حدّاً يفرضه الواقع، فالواقع لم يكن يوماً هو العائق، بل طريقة قراءتنا له هو العائق، فالتاريخ بمنجزاته الكبرى واختراعاته التي غيّرت وجه البشرية لم يصنعه أشخاص امتلكوا قدرات خارقة، بل اشخاصاً امتلكوا جرأة السؤال وشجاعة التجربة وإيماناً بأن المستحيل مجرد رأي قابل للسقوط أمام أول خطوه.
ومن أكبر الأدلة على ذلك أن ما كان بالأمس ضرباً من الخيال أصبح اليوم أمراً ملموساً، وما كان حلماً أصبح واقعاً، فالمركبات الفارهة والطائرات العابرة للقارات، والكهرباء والانترنت والخوارزميات والذكاء الاصطناعي وغيرها كانت من المستحيل، ثم أصبحت من أساسيات الحياة.
الخاتمة... لا تنتظر اللحظة المثالية، ولا تترقب الظروف الملائمة، فالمعجزات لا تحدث لمن يقف بعيداً يراقب بل اقترب من حلمك أكثر، واختبر حدودك، واسمح لنفسك أن تكتشف ما وراء الخوف، فربما تكون تلك الخطوة هي الشرارة التي تُسقط جدار المستحيل إلى الابد.. وتفتح أمامك طريقاً لم يكن أحد يتخيله إلا أنت.






