الاستقرار العاطفي حين يكون غاية

الاستقرار العاطفي ليس ترفًا عابرًا أو حلمًا رومانسيًّا محصورًا بالنساء، بل هو حاجة إنسانية أصيلة، يطلبها الرجل بعمق وإن لم يُفصح، ويهفو إليها قلبه رغم صمته الطويل.

العاطفة، كما جاء في معجم المعاني، هي: ”استعدادٌ نفسي ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالاتٍ وجدانيةٍ خاصة، والقيام بسلوكٍ معيّن حيال شخصٍ أو جماعةٍ أو فكرةٍ معيّنة، كما أنّها تعني: الميل والشفقة والحنوّ والرّقة“.

إنها الطاقة التي تسري في وجدان الإنسان، فتُكسبه الدفء، وتُنعش روحه، وتربطه بالآخرين على نحوٍ وجدانيٍّ عميق.

ولكن بين العاطفة كتجربة، وبين الاستقرار العاطفي كحالة، مسافة كبيرة؛ فالاستقرار العاطفي لا يعني غياب التفاعل الوجداني، بل يعني حضور التوازن، وامتلاك المرء القدرة على تهدئة اضطراباته الداخلية، ليعيش في سكينةٍ نفسيةٍ لا تُهدّدها تقلبات اللحظة أو ردّات الفعل العابرة.

ولعلَّ أبلغ تعبير عن هذا المعنى نجده في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ”الروم، 21“.

إن السكنى هنا ليست مجرّد إقامةٍ جسدية، بل طمأنينةٌ عاطفية، وراحةٌ داخلية، واستقرارٌ يُنقذ النفس من التشظّي ويؤسّس لحضورٍ وجدانيٍّ ناضج.

فحين يطلب الإنسان هذا الاستقرار، رجلًا كان أو امرأة، لا يعني ذلك أنه هشّ أو ضعيف، بل يعني أنه كائنٌ حيّ المشاعر، عميقُ الاحتياج، يتطلّع إلى الأمان النفسي، والسكينة القلبية، التي تُعيد لروحه توازنها.

الاستقرار العاطفي ليس ضعفًا، بل وعيٌ بالحاجة الإنسانية الأصيلة للسكن والطمأنينة، تلك التي وصفها الله تعالى بقوله: ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا.

غياب الاستقرار العاطفي.. قنبلة موقوتة

قد يستهين البعض بغياب الاستقرار العاطفي، فيُلقي بنفسه في تجارب عاطفيةٍ متناثرة، باحثًا عن دفءٍ زائف، ومتوهّمًا أن العاطفة تُجتزأ من هنا وهناك. لكنه لا يدرك أن ما يفعله هو في الحقيقة نسفٌ لعاطفته، وتدميرٌ لشخصه، وربما زلزلةٌ لإيمانه.

فالإنسان مسؤولٌ أولًا عن ذاته في تحقيق هذا الاستقرار، لكن تبقى مسؤولية الشريك عاملاً محوريًا لا غنى عنه. فكم من زوجٍ أو زوجةٍ تجاهل هذا الاحتياج النبيل لدى شريكه، فسرق منه طعم الحياة، وسكينة العُشرة، وحتى أمان القلب.

فإذا كانت الزوجة هي الطرف الذي يعاني من غياب هذا الاستقرار، فقد تُغلَق في وجهها كلَّ الأبواب، وتبقى رهينة صبرٍ مؤلمٍ حتى يفيق شريك حياتها من غفلته، أو تختار إنهاء تلك العلاقة، أملًا في مستقبلٍ يحمل لها السكينة بإذن الله.

أما إن كان الزوج هو المتضرّر، فقد يجد في الشريعة سُبلًا مشروعة لتلبية احتياجه، لكنها سُبلٌ محفوفةٌ بالخطر، إذ قد ينزلق —من حيث لا يشعر— إلى متاهاتٍ عاطفيةٍ تُنهكه نفسيًا، وتُضاعف من غربته الشعورية. فليس كل ما هو متاح شرعًا يُمثّل خلاصًا واقعيًّا، وليس كل التجارب تُفضي إلى الطمأنينة؛ بل قد يتحوّل البحث عن الاستقرار العاطفي في واقعٍ مضطرب إلى رحلة ضياع لا تنتهي.

كيف يتحقق الاستقرار العاطفي؟

الاستقرار العاطفي ليس هديةً تأتي مصادفة، ولا ثمرة تُقطف دون وعي، بل هو بناء داخلي يحتاج إلى جهدٍ ونضجٍ واستبصار. فمن يسعى إليه - رجلًا أو امرأة، لا يبحث عن حالةٍ مثالية، بل عن توازنٍ عميق يُنقذه من الغرق في تقلباته النفسية، ويُعينه على العيش بسلام داخلي في خضم المسؤوليات والضغوط.

وتكمن المفاتيح الأساسية لهذا الاستقرار في ثلاثة عناصر جوهرية:

أولًا: الوعي الذاتي

حين يعرف الإنسان ذاته بوعي، ويفهم ما الذي يجذبه عاطفيًّا تجاه الطرف الآخر، يكون أكثر قدرة على اختيار الشريك المناسب، كما يكون داخل العلاقة الزوجية أقدر على التعبير عن احتياجاته العاطفية العميقة. فالعاطفة لا تنشأ في الفراغ، بل تمرّ أولًا من بوابة الانجذاب النفسي، وهذا الانجذاب لا يُولد إلا حين يعرف المرء نفسه ومكامن احتياجه.

ثانيًا: تجاوب شريك الحياة

لا يمكن للعاطفة أن تصل إلى حالة من الاستقرار إذا ظلت أحادية المصدر؛ فالعاطفة بطبيعتها تبادلية، تقوم على الأخذ والعطاء، على الشعور والتجاوب. ومن هنا، فإن تجاوب الطرف الآخر، بنفس الدرجة والصدق، هو ما يُنتج حالة التوازن العاطفي.

فالعطاء من طرفٍ واحد، مهما كان دافئًا، سيذبل إن لم يجد من يردّ عليه بالشعور ذاته.

ثالثًا: اللطف الإلهي

قد يبذل الإنسان جهده، ويتهيّأ بكل الأسباب النفسية والسلوكية، لكنه لا يصل إلى غايته إلا حين يشمله اللطف الإلهي، الذي هو أصل كلِّ توفيق، ومصدر كلِّ سكينة.

وليس معنى ذلك أن الاستقرار العاطفي غايةٌ بعيدة المنال، بل على العكس تمامًا؛ فإذا توجّه الإنسان بقلبه إلى الله تعالى، مدركًا أن بيده ملكوت كلِّ شيء، وأنه على كلِّ شيء قدير، تحقّقت له الغايات بألطف طريق، وأجمل هيئة.

وختامًا..

قد لا يكون جميع الناس يبحثون عن الاستقرار العاطفي؛ فبالنسبة لبعضهم قد تُعدّ العاطفة أمرًا ثانويًا، أو مسألةً مرتبطةً بعلاقةٍ جسدية محضة، فلا يكون لها حضور جوهري في حياتهم.

ولكن في المقابل، هناك من الرجال والنساء مَن تُشكّل العاطفة بالنسبة إليهم بُعدًا أساسيًا في وجودهم، وغيابها يجعلهم يعيشون اضطرابًا داخليًا ينعكس على واقعهم ومسيرتهم. وهؤلاء، إن لم يتسلّحوا بسلاح الوعي، ويتكئوا على عمق الإيمان، فإنهم قد يكونون على حافة خطرٍ عظيم.

من أجل ذلك، لا بد أن يكونوا أكثر وعيًا بأنفسهم، وأقرب إلى خالقهم، مستنيرين بحقيقة أن القلب لا يصل إلى الهداية إلا بالإيمان، قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ”التغابن، 11“.

استاذ ومفكر