الشتاء الذي جلب الدفء
كان المساء بارداً، والريح تعصف خارج النافذة وكأنها تهمس بأسرار الشتاء. ارتجف علي وهو ينظر إلى والدته بعينين ملؤهما الرجاء، وقال بصوت مرتعش:
— ”الماء بارد يا أمي...“
نظرت إليه بحزن، ثم زفرت ببطء وقالت:
— ”السخانة معطلة منذ يومين، لا حيلة لي، يا بني...“
علي، بصوت تملؤه الشكوى:
— ”أنا لا أحب الشتاء! لا أحب المطر! انظري كيف أغرقنا المطر! تسرب الماء في كل مكان... غرفتي، المطبخ، الصالة... الهواء يلسع وجوهنا، والبيت بارد كأنه قطعة من القطب الشمالي... لا أحتمل هذا البرد!“
أمسكت والدته بيده، وربتت عليها بحنان رغم وجعها، وقالت بصوت يملؤه الأمل:
— ”تحمل يا صغيري، لن تدوم أيام الشتاء، ستمر سريعاً كما تمر الأحزان...“
لكنه لم يقتنع، وواصل تذمره بصوتٍ يملؤه الإحباط:
— ”لكنني سأتجمد! ملابسي ضيقة، لا شيء يدفئني...“
نظرت إلى صورة زوجها الراحل، وشعرت بحرقة في قلبها. تساقطت دمعة على وجنتيها، وتمتمت بصوت بالكاد سمعه علي:
— ”رحمك الله، يا أبا علي... لماذا رحلت باكراً؟“
اقترب منها ابنها، وقد شعر بوجعها أكثر من وجعه، وقال بصوت حنون رغم صغره:
— ”لا تبكي، يا أمي... سأتحمل البرد من أجلك...“
«2»
في المدرسة، كان جسد علي يرتجف، ولم يكن السبب فقط هو الطقس. سأله المعلم:
— ”هل حفظت جدول الضرب، يا علي؟“
حاول أن يجيب، لكن أسنانه كانت تصطك من البرد، فخرج صوته متقطعاً:
— ”ل... لا... لم أحفظه...“
عقد المعلم حاجبيه بدهشة وسأل:
— ”لماذا؟“
همس علي بصوت خافت:
— ”البرد يا أستاذ... لم أستطع أن أمسك الكتاب...“
رفع المعلم كتابه المتجعد المبلل بالماء، وتأمله للحظات، ثم سأل بحيرة:
— ”لماذا كتابك بهذا الشكل؟“
أجاب علي بنبرة تحمل في طياتها حزن العالم كله:
— ”المطر... يا أستاذ، أنا لا أحب البرد...“
نظر إليه المعلم، ثم وضع يده على كتفه، وتنهد بحنان وقال:
— ”ثق أن هذه الأزمة ستنتهي اليوم، يا علي...“
«3»
في منزلها المتواضع، جلست أم علي تفكر في الرجل الذي لم تلتقِ به يوماً، ولكنه كان يمد لها يد العون منذ وفاة زوجها. ترددت للحظات، ثم أمسكت بهاتفها وأرسلت له رسالة:
— ”أيها الرجل الكريم، لا أعرفك، لكنك لم تبخل علينا يوماً. نحن في أزمة... البرد يحيط بنا من كل جانب، والمطر يتسرب إلى بيتنا، وابني يذهب للمدرسة وهو يرتجف... نحتاج إلى بعض المساعدة، فملابسه لم تعد تقيه البرد... أنت رجل كريم، ونحن بانتظار كرمك...“
لم تمضِ دقائق حتى جاء الرد، لكنها عندما قرأته، صُعقت.
— ”عذراً، أيها المرسل، لقد توفي صاحب هذا الرقم قبل عشرين يوماً... لكنني رأيت محادثاتكم السابقة، ولا تقلقي، فقد أوصانا الوالد رحمه الله بمواصلة أعماله الخيرية... سيكون كل شيء على ما يرام.“
سقط الهاتف من يدها، وانهمرت دموعها بصمت. تمتمت بحزن:
— ”رحمك الله، أيها المحسن المجهول...“
«4»
عاد علي من المدرسة، وكانت على وجهه علامات الحزن، لكنه قال لأمه مبتسماً:
— ”لا تقلقي، يا أمي، الجو كان مشمساً اليوم، وأنا لم أشعر بالبرد!“
لكنها لم تجبه، فقد كانت تنظر إلى صناديق وضعت في زاوية الغرفة. لاحظها علي وسأل بحيرة:
— ”ما هذه الصناديق؟“
أشارت إليه بيدها المرتجفة:
— ”افتحها، يا بني...“
فتحها بلهفة، ليجد بداخلها بطانيات دافئة، ملابس شتوية، ومدفأة جديدة... لم يصدق عينيه. وقبل أن يتكلم، سُمع صوت طرق على الباب.
فتح علي، فوجد معلمه واقفاً أمامه، وبجواره رجل يحمل صندوق أدوات. نظر علي إلى معلمه بدهشة، لكن الرجل ابتسم وقال:
— ”لا داعي لأن تحفظ جدول الضرب اليوم، يا علي... المهم ألا يحرمك البرد من الدراسة...“
أشار إلى الرجل الذي بجانبه وأردف قائلاً:
— ”هذا السباك سيصلح السخانة، وسيتم ترميم السقف...“
التفت علي إلى أمه، فوجدها تمسح دموعها، وقالت بصوت متهدج:
— ”والآن، يا بني، هل ستظل تكره البرد؟“






