البيروقراطية بين العقلانية والتشويه

هناك من يرى البيروقراطية مجرد روتين معقّد وعقبات وعراقيل متكررة لا تنتهي، بل ويعتبرها مرضاً إداريا يعوق التطور ويخنق روح الإبداع، وهناك من يمارسها ممارسة خاطئة حين يحوّلها من وسيلة إلى غاية لتعطيل وعرقلة المعاملات سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي أو وسيلة لإثبات النفوذ والسيطرة.

غير أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، فالبيروقراطية في أصلها نظرية إدارية عقلانية تهدف إلى تنظيم العمل المؤسسي بمختلف انواعه واشكاله، وضمان العدالة والكفاءة، فهي كما يقول المفكر الإداري وارن بينيس Warren Bennis - كالسكين في يد الجراح: قد تُنقذ حياة أو تزهقها.

لقد وضع عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر أسس البيروقراطية الحديثة على مجموعة من المبادئ الواضحة: من أبرزها، تقسيم دقيق للعمل: يحدد مسؤوليات كل موظف، سلطة قانونية قائمة على القواعد: لا على الأهواء الشخصية، حياد وظيفي: يضمن التعامل بعدالة مع الجميع، توثيق كامل للإجراءات: لضمان الشفافية، وتسلسل هرمي للسلطات: يحافظ على وضوح القرار والانضباط المؤسسي.

وهي المبادئ الخمسة لو طُبقت بروحها وجوهرها لجعلت المؤسسات والشركات أكثر عقلانية وفعالية، وأبعد ما تكون عن الجمود أو الفساد.

لكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف تحولت هذه البيروقراطية من أداة تنظيمية وانضباطية إلى عبء إداري خانق في نظر الكثيرين؟ وكيف يمكن استعادة روحها العقلانية لتؤدي وظيفتها كما أرادها واضعوها؟

الوجه الآخر للبيروقراطية

في أروقة المؤسسات أو الدوائر الرسمية كثيراً ما يجد الفرد نفسه مُحاطاً بسلسلة لا تنتهي من الإجراءات والنوافذ كلُ منها يفرض شروطاً جديدة، وأوراقاً إضافية، وطلبات متكررة قد تبدوا أحياناً بلا نهاية.

وما كان يُفترض أن يكون مهمة بسيطة وسريعة تتحول في كثير من الأحيان إلى رحلة شاقة عبر متاهة من الروتين، حيث يُستهلك الوقت والجهد والمال دون جدوى واضحة، فينعكس ذلك سلباً على ثقة الموظف في المؤسسة، وعلى كفاءة الجهاز الإداري نفسه.

هذه الصورة تكشف عن الوجه الآخر للبيروقراطية حيث تتحول من أداة دقيقة لتنظيم العمل وضمان العدالة والحياد إلى عبء إداري يُثقل المؤسسات ويحدّ من قدرتها على الإنتاجية والابتكار

الأسباب والمبررات

من المهم أن نعترف بأن تحدي البيروقراطية ليس حكراً على مجتمع بعينه، بل هي إشكالية تواجهها العديد من المجتمعات التي تسعى للتطوير من البيروقراطية التقليدية المقيدة إلى العقلانية، ولعل من أبرز الأسباب التي تقف وراء التعقيّد لهذه الأداة التنظيمية الهادفة هي: -

1 - الإنحراف عن الهدف الأصلي:

الإجراءات التي وُضعت في الأصل كوسيلة لخدمة الغاية النهائية «تقديم خدمة سريعة وعادلة» أصبحت غاية في ذاتها، وهذا ما أشار إليه ويليام نيسكانن William Niskanen في نظريته عن ”تعظيم الميزانيات“ حين وصف السلوك الانتهازي للبيروقراطي " الذي قد يُفضل تعقيد الإجراءات لتبرير زيادة موظفيه وميزانيته.

ولعل مثالا واقعياً على ذلك ما نراه في بعض المؤسسات المحلية حيث يحتاج الموظف لإنجاز معاملة بسيطة إلى المرور على أكثر من قسم للتوقيع رغم أن هذه الأقسام قد لا تضيف أي قيمة حقيقية للعملية، وهذا ما حذر منه فيبر حين قال ”إن البيروقراطية قد تتحول إلى آلة بلا روح“ إذا فقدت ارتباطها بالنتائج

2 - التضخيم الإجرائي وتراكم اللوائح:

في كثير من المؤسسات تُضاف تعليمات جديدة كل عام دون مراجعة لما سبق فيتضاعف التعقيد وتتراكم اللوائح، وقد وصف بيتر دراكر هذه الحالة بقوله ”الأنظمة التي لا تخضع لمراجعة دورية تتحول إلى متاهة يضيع فيها الهدف“

وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح في بعض مؤسساتنا حيث يتأخر تنفيذ عمل مكتمل بسبب اشتراط موافقات متسلسلة من أقسام متعددة بعضها غير معني مباشرة بالعمل نفسه فيضيع الوقت والجهد والمال ويُصاب الموظف والمراجع بالإحباط.

3 - سيطرة ثقافة السلطة بدل ثقافة الخدمة:

بدلاً من أن تكون البيروقراطية أداة لتيسير حياة الناس أصبحت في بعض الحالات وسيلة لإبراز النفوذ أو التهرب من المسؤولية، فكثيراً ما تُرفض المعاملات على سبيل المثال بحجة ”عدم حضور المدير“ في حين أنه كان ينبغي أن تكون صلاحية التوقيع متاحة للموظف المُفوض، وكثيراً ما تتعطّل المشاريع لأن أحدهم أراد أن ”تُظهر الإجراءات أهميته“ وهذا ما عبّر عنه هنري فايول بقوله ”الإدارة فن تسهيل العمل لا تعقيده“

4 - مقاومة التغيير وعدم مواكبة التقنية

لا تزال بعض المؤسسات تعمل بأنظمة واشتراطات وضعت قبل عقود رغم تغير الظروف والتقنيات والاحتياجات مما يخلق فجوة كبيرة بين الإجراءات البطيئة والواقع المتسارع، ويجعلها عاجزة عن تلبية التوقعات الحديثة للسرعة والكفاءة.

ومن هنا نستنتج ان البيروقراطية في مؤسساتنا المحلية فقدت جوهرها لأنها انشغلت بالشكل على حساب المضمون، وبالحماية على حساب الخدمة، وبالصلاحية على حساب المسؤولية، ولكن الحل في نظري ليس في إلغائها، فهي ضرورية لأي تنظيم بل يكمن في إعادة ضبطها لتستعيد روحها الأولى.

ماهي البيروقراطية العقلانية

البيروقراطية العقلانية هي منظومة من القواعد والإجراءات الواضحة والمنظمة التي تحوّل الإدارة من فوضى محتملة إلى نظام قابل للقياس والمتابعة والتطوير المستمر، ونحن في مؤسساتنا بحاجة إليها لأنها تضمن العدالة في توزيع المسؤوليات والسلطات بل وتوفر إطارا واضحاً لاتخاذ القرارات بعيداً عن الهوى الشخصي والمحسوبيات، ومن خلالها يمكن تحديد كل وظيفة بمهامها ومعايير أدائها، ومن دون هذه العقلانية تصبح المؤسسات عرضة للفوضى، والتباطء والقرارات الفردية، ونقص المساءلة وما إلى هنالك

نماذج ملهمة وتجارب ناجحة

إن تحويل البيروقراطية من عبء إداري إلى أداة فعالة يتطلب إعادة اكتشاف الروح الأصلية لنظرية ماكس ويبر مع مواءمتها لمتطلبات العصر، وإليك بعض النماذج الملهمة

على المستوى المحلي ”التجربة السعودية نموذجاً“

حيث تشهد المملكة العربية السعودية تحولاً جذرياً طموحاً في القطاع الحكومي ضمن رؤية 2030 التي تهدف إلى تحسين تجربة المواطن ورفع كفاءة الأداء، ومن أبرز الأمثلة

منصة ”أبشر“ وهي: نموذج رائد في تحويل الخدمات الحكومية إلى رقمية بالكامل حيث وفرت أكثر من 600 خدمة إلكترونية، وقد اختصرت المنصة آلاف الخطوات الورقية والموافقات المتعاقبة، وحولت إنجاز المعاملات من أيام وأسابيع إلى دقائق مع الحفاظ على الدقة والأمان والمساءلة وهو ما يعكس جوهر البيروقراطية العقلانية

برنامج ”يسّر“ لخدمات الأعمال: الذي يُعد نموذجاً فريداً لتيسير بيئة الأعمال حيث يعمل على دمج وتيسير الإجراءات بين أكثر من 40 جهة حكومية وإلغاء مالا داعي له من المتطلبات.

على المستوى العالمي

قدمت بعض الدول المتقدمة مثل سنغافورة: نماذج رائدة في كسر الجمود البيروقراطي من خلال رقمنه الخدمات الإدارية، وربط المؤسسات إلكترونياً، بحيث يمكن إنجاز معظم المعاملات الحكومية خلال دقائق عبر تطبيقات موحدة، ”كالحكومة الذكية“ التي حققت معادلة صعبة بين الدقة البيروقراطية المطلقة والسرعة الفائقة مع الحفاظ على الدقة والمساءلة.

الأمارات العربية المتحدة: التي أطلقت مبادرة ”محطات الحكومة“ و”الحكومة عن بُعد“ لتقديم خدمات متكاملة في مكان واحد لأنهاء معاملات الأفراد والشركات في جولة واحدة مختصرة.

جمهورية استوينا: وهي إحدى دول منطقة البلطيق الثلاث التي تحررت من الاتحاد السوفيتي، والتي أصبحت 99% من خدماتها الحكومية إلكترونية مع نظام آمن وشفاف يقلل الاختلالات.

الخاتمة والتوصيات

يمكننا أن نجزم بأن بيروقراطيتنا قادرة على أن تكون عقلانية وفعالة شريطة أن نًعيد تعريفها وفق رؤية حديثة تُحيي مبادئها الخمسة التي أشرنا إليها في المقدمة، وأن نوظّف التقنية بما يحوّل الثقافة التنظيمية ”مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات والعادات والسلوكيات المشتركة التي تسود داخل المؤسسة“ من التركيز على الشخص أو السلطة إلى التركيز على النتائج والخدمة، واضعةً نصب عينيها الغاية قبل الوسيلة، والنتيجة قبل الإجراء والعميل قبل الموظف.

وبهذه الرؤية المتوازنة يمكن تحويل البيروقراطية من عقبة إلى داعم للتنمية والإبداع المؤسسي، وأن تكون أداة حقيقية لخدمة المؤسسات وتحقيق التقدم.