فن..... الاستغناء
لم يعد العالم كما كان، الأشياء تغيرت، والوجوه تغيرت، وحتى المعاني التي كنا نتكئ عليها منحتها الأيام طابعًا آخر.
في زمنٍ طغى فيه الذكاء النفعي على الذكاء الإنساني، صار الكثيرون يتقنون تحويل كل شيء إلى وسيلة، الأفكار، المواقف، بل وحتى العلاقات التي خُلقت أصلًا لتكون مرفأ دفء، لا جسر عبور.
صرنا نعيش داخل زحامٍ لا مكان فيه للثبات، تُدفع النفوس دفعًا نحو اللهاث، نحو التقدم بأي ثمن، وحين تضيق الطرق، نسمع همسًا داخليًا يتكرر نفسي، ومن بعدي الطوفان.
وهكذا تتكون مسافة باردة بين بيننا وبين الآخرين، مسافة لا يعبرها الحب بسهولة، ولا تقوى عليها النوايا الطيبة.
العلاقات اليوم في معظم صورها لم تعد غايات تُرتجى لذاتها، بل أدوات مؤقتة، تُستعان حين الحاجة، وتُطوى صفحاتها حين تتبدل المصلحة أو ينتهي الظرف.
ولأن الأرواح بطبيعتها شفافة، فإن هذا التبدل يترك فيها خدوشًا لا ترى، لكنه يُشعرها بأنها تعيش في عالم لا يمكن التنبؤ به، عالمٍ يتبدل كلما مرت عليه رغبة جديدة.
من هنا تأتي حكمة الاستغناء، لا استغناء المتعجرف الذي يتعالى، بل استغناء العارف الذي أدرك هشاشة التوقعات، وتعلم أن يخفف من ثقله على الآخرين، وأن يحفظ قلبه من الوقوع في فخ الاعتماد على ما لا يدوم.
فالاستغناء ليس خلو اليد، بل امتلاء الروح، وليس قطيعة، بل مساحة آمنة يتوارى فيها القلب كي لا يكسره تقلب البشر.
إن الاستغناء في هذا الزمن ليس انسحابًا من الحياة، بل فن البقاء فيها دون أن نُستنزف، هو قدرة على أن نحب من دون أن نتعلق بما هو زائل، لأن طبيعة الأشياء إلى زوال، وأن نعطي من دون أن ننتظر،، فالعطاء بصمت الخير كله، لكن اعتادت الألسنة، على الثرثرة والتفاخر بما قدمت وأعطت، لتذهب بركة العطاء وينال المعطي الجزاء عاجلاً غير آجلٍ.
لدا لابد من بقاء الباب مواربًا بيننا وبين العالم كي لا تُفاجئنا الرياح حين تغير اتجاهها.
لقد أثبتت المواقف الحياتية والتجارب اليومية، أن الحكمة لم تعد في السعي خلف كل قلب، بل في حفظ القلب من كل ما يهدره، وأن النجاة لم تعد في التمسك بكل علاقة، بل في معرفة اللحظة التي يجب فيها أن نكتفي ونمضي.
فالاستغناء، بمعناه العميق، ليس سوى درس في الحرية، حرية الروح من ثقل البشر، وحرية البشر من ثقل توقعاتنا.
يظل الأجمل أن نعرف كيف نخفف خطواتنا، وكيف نترك لأنفسنا مساحة من الهدوء، كي نرى الأشياء بوضوح أكبر، وحين نفعل، سنفهم أن الاستغناء لم يكن يومًا خسارة، بل كان دائمًا أبلغ أنواع الحكمة.






