وطن… لا ترسمه الحدود
ويبقى اللسان عاجزًا حين يحاول أن يصف معنى الوطن؛ فالكلمات مهما اتسعت تضيق عن احتضان هذا الشعور.
بل هو حضن كبير يتسع لكل نبضاتنا، لأفراحنا الصغيرة وأحزاننا الثقيلة، لدموعنا المختبئة خلف الصمت، ولابتساماتنا التي تولد من رحم التعب.
وإذا كان لكل وطن ميزة تفرّده، فوطننا غير كل الأوطان، هو نبض العالم الإسلامي وواجهته الدينية، بل هو الهوية الوطنية كل مسلم.
فهذا الوطن شرفه الله بالحرمين الشريفين، وجعله مهبط الوحي ومنطلق الرسالة الخالدة. على ثراه سجدت جباه الأنبياء، ومن مكة المكرمة انطلقت الكلمة الأولى التي غيّرت وجه التاريخ، وفي المدينة المنورة شعّ نور المصطفى فكان للعالمين هدى ورحمة.
إنهما جوهرتان تتلألآن في قلب هذا الوطن، تمنحانه قداسة ومكانة لا تضاهيها أرض.
إنه الذاكرة التي لا تُمحى مهما امتد بنا العمر؛ تفاصيل الطفولة التي تنبت في الأزقة الضيقة، أصوات الجيران في صباحات العيد، رائحة الخبز الساخن حين يختلط بدفء البيوت، ووجوه الناس التي نحفظها عن ظهر قلب دون أن نحتاج إلى أسماء.
هو الأذان الذي يوقظنا عند الفجر، والنشيد الذي يعيد إلينا انتماءنا كلما ابتعدنا. إنه الدفء الذي يسبقنا قبل أن نطلبه، والأمان الذي يحيط بنا حتى وإن تاهت بنا الطرق.
وللوطن في قلوبنا لغة خاصة، لغة لا تُكتب بالحروف ولا تُترجم بالمعاجم، بل تُعاش بالوفاء وتُترجم بالفعل.
فكلما حاولت الكلمات أن تقترب من جوهره، تراجعت خجلاً أمام سموّ معناه، كأنها تدرك أن الأوطان لا تُوصف، بل تُحسّ وتُعاش.
فالوطن حضنًا كبيرًا، يُطمئن الروح حين تضطرب، ويُعيد للإنسان صوته حين يوشك أن يفقده، ويذكره دائمًا أن له جذورًا تضرب عميقًا في الأرض، وجناحين يحلق بهما نحو الأفق، يبقى الوطن هوية الروح وملاذ القلب.