كيف تُنافس وتبقى متميزاً

في أعماق كل إنسان نزعة فطرية نحو التعلّم والتفوق، تتجلّى منذ الطفولة في رغبة الطفل سواء في ميدان التعلّم أو اللعب، وهذه النزعة ليست مجرّد رغبة عابرة، بل هي جزء راسخ من البنية النفسية والفطرية للإنسان حيث تتفاعل معها الدوافع الداخلية والفروق الشخصية مثل الطموح والذكاء العاطفي والقدرة على التحمل والميل إلى المخاطرة.

لكن سرّ التميز لا يقوم على الرغبة وحدها، بل على كيفية إدارة هذه النزعة وتوجيهها بطرق صحية وإيجابية فالمنافسة الحقيقية ليست في إسقاط الآخرين أو عرقلة تقدّمهم أو التقليّل من إنجازاتهم بل في إبقاء نفسك في حالة ارتقاء مستمر عبر الجدّ والمثابرة، ومن يكتفي بتقليد غيره قد ينجح مؤقتاً لكنه سرعان ما يتوقف عند حدود الآخرين ولا يترك بصمته الخاصة.

ولذلك قيل " يمكنك أن تكسب السباق بقدميك لكنك لا تكسب القلوب إلا بأخلاقك، فالعظمة لا تُقاس بعدد الذين تتفوق عليهم بل بمقدار الأثر الذي تصنعه وتخدم به مجتمعك. وهنا يبرز السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه ما مفهومنا للمنافسة؟ وما هو الفرق بين السعي للتميز وبين تمنيّ ما لدى الآخرين من مال أو علم أو مكانة أو أي صورة من صور التميّز؟ وكيف نُنافس الكبار دون أن ننهار أمامهم؟

تُعرف المنافسة Competition

في الأدبيات الإدارية، تُعرف المنافسة على أنها " عملية ديناميكية يسعى من خلالها الأفراد أو المؤسسات إلى تحقيق التفوق النسبي في مجال معين، عبر تحسين الأداء أو زيادة الموارد أو رفع الكفاءة في إطار يتيح المقارنة مع الآخرين.

أما في علم النفس التربوي فهي ”دافع سلوكي اجتماعي يُحرّك الفرد لمواجهة الآخرين في سبيل إنجاز هدف معين، سواء بُني على رغبة في التميز الإيجابي أو على نزعة سلبية لإقصاء الغير“

الفرق بين السعي للتميز وتمنّي ما لدى الآخرين

لا شك أن المنافسة جزء طبيعي وأساسي من حياة الإنسان والمؤسسات، فهي دافع مستمر نحو التطور وتحقيق الإنجازات، غير أن المنافسة ليست متشابهة في كل الأحوال، إذ يمكن أن تكون بنّاءة وإيجابية تدفع الفرد أو المؤسسة نحو التميز أو سلبية تقوم على تمني ما لدى الآخرين دون السعي لتطوير الذات، ولفهم الفرق بين هذين المسارين لابد من النظر إلى السمات الأساسية لكل منهما.

أولاً: أن السعي للتميز يقوم على تطوير القدرات والمهارات الشخصية أو المؤسسية، ويسعى لإحداث أثر إيجابي يخدم الفرد والمجتمع أو السوق مثال ذلك ”سيف جوبز“ الذي ركز على تطوير منتجات مبتكرة وترك بصمة في عالم التكنولوجيا، ولم يركز على تقويض منافسيه، وقد بينت دراسات منشورة في Harvard Business Review أن الشركات التي تركز على الابتكار والتحسين المستمر تحقق معدلات نمو أعلى بنسبة 35% من الشركات التي تركز على تقويض المنافسين

ثانياً: أن تمني ما لدى الآخرين «الحسد» يقوم على الرغبة في امتلاك ما لدى الآخرين دون بذل جهد وغالباً ما يؤدي إلى سلوكيات سلبية مثل التشويه والإقصاء أو التقليل من جهد الآخرين كبعض الشركات الصغيرة التي تحاول محاصرة المنافسين بطرق غير قانونية بدلاً من تحسين منتجاتها، وفي دراسة لعلم النفس التربوي أكدت أن التنافس السلبي يقلل من مستوى الإنتاجية بنسبة تصل إلى 25% في بيئات العمل الجماعية.

كيف نُنافس دون أن ننهار

أولاً: أن تقف وراء عملك

قيل لتاجر ناجح: ما هو أفضل عمل يدر المال؟ فأجاب قائلاً ”كل الأعمال تكسبك المال، فلا شيء في الحياة إلاّ ويمكن الحصول من خلاله على المال. ولكن بشرط واحد هو أن تقف وراء عملك“ فالعمل المستمر يكسب صاحبه الخبرة اللازمة ويدفعه إلى تجاوز العقبات ويعوضه عن خسائره.

وطبيعي أن ذلك ليس خاصاً بالمال وحده، وإنما يعم كل الأهداف التي يسعى إليها الناس، وهكذا فلا يتحقق شيء مهما صغر أو كبر من دون عمل عامل وفعل فاعل، تلك هي سنّة هذه الحياة، فلولا العمل لانقرض الناس من العالم  كما يقول الصينيون، وفي الحديث الشريف ”الإيمان عمل كله“ وكما يقول الشاعر

توكّل على الرحمن في الأمر كلّه

ولا ترغبن في العجز يوماً عن الطلب

ألم تر أن الله قال لمريم

وهزي إليك الجذع يساقط الرّطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزّة

جنته، ولكن كل رزق له سببُ.

وثانياً: الصبر الاستراتيجي

وهو يعني: فن امتلاك القوة والانتظار حتى يحين الوقت الذي يجعل أثرها أعظم وأدوم. ومن امثلة ذلك على المستوى الفردي

1 - الموظف العادي في الشركات الكبرى: حيث نرى موظفين بدوا من مواقع متواضعة، ورفضوا المغريات اللحظية للانتقال السريع، وتمسكوا ببرامج التطوير الطويلة ومع مرور الزمن أصبحوا قادة يوجّهون مئات الموظفين وأثرهم يتجاوز حدود مناصبهم ليصنعوا ثقافة عمل متينة.

2 - المثابر في العلم: الباحث أو الطالب الذي يقضي السنوات الطويلة في إعداد رسالة علمية أو تطوير اختراع قد لا يصفق له أحد في البداية، لكن حين يثمر عمله في براءة اختراع أو بحثٍ مرجعي سيصبح اسمه مرتبطاً بإنجاز خالد.

على المستوى المؤسسي

1 - جمعية القطيف الخيرية: البداية كانت بإسهامات محلية محدودة وبجهود تطوعية من المجتمع المحلي ودون بنية تنظيمية كبيرة أو ميزانية ثابتة، ومع مرور السنوات توسع نطاق العمل وتم تسجيلها رسمياً لدى وزارة الشئون الاجتماعية لتصبح مؤسسة قوية ذات أثر اجتماعي مستدام

2 - جمعية أم الحمام الخيرية: البداية كانت على شكل جهود فردية من الأهالي وبدون دعم مالي كبير، وبعد فترة قصيرة من العمل والصبر الاستراتيجي تم اعتمادها رسمياً من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وبذلك بدأت مرحلة التنظيم المؤسسي والبناء المستدام

ثالثاً: تجنّب الحسد والمقارنة السلبية

تؤكد الدراسات النفسية " أن من يمارسون التنافس البنّاء أقل عرضة للإجهاد النفسي بنسبة 50% مقارنة بالذين يركزون على مقارنة أنفسهم بالآخرين، فالمنافسة السلبية تخلق حالة دائمة من القلق والتوتر، وتستنزف الطاقة والإبداع، بينما التنافس الإيجابي يحفز التعلم المستمر والتطوير الذاتي

وفي الختام يمكننا أن نقول:

إن سرّ المنافسة الحقيقية ليس في إقصاء الآخرين أو قياس النجاح بعدد من تتفوق عليهم، بل في القدرة على إدارة ذاتك وتطوير مهاراتك والاستمرار في الارتقاء، فالمنافسة الإيجابية تعني أن تبني قوتك بالعمل الجاد والمخلص لله تعالى، وأن تتحلّى بالصبر الاستراتيجي الذي يمنحك القدرة على الاستمرار حتى أمام الكبار دون أن تنهار أو تتراجع، وأن تحافظ في الوقت ذاته على أخلاقك العالية التي تكسب بها القلوب قبل المراتب.

وبينما يسقط البعض في فخّ الحسد أو تقليد الآخرين، فإن المتميز هو من يركز على إبداعه الخاص، وبصمته الفريدة، وخدمته لمجتمعه، فيحوّل المنافسة الى مدرسة للتعلم والنمو لا إلى ساحة للصراع، وبهذا المعنى يصبح التميز رحلة مستمرة لا مجرد سباق عابر، وتتحول المنافسة من معركة لكسب المقاعد إلى وسيلة لبناء أثر خالد