كربلاء مدرسة الأنبياء ومنبر القيم
كثيرون هم الذين يذرفون الدموع على الامام الحسين ، وهي دموعُ جليلة الشأن عظيمة الأثر عالية المنزلة، ففي الرواية عن النبي الأعظم صل الله عليه وآلة أنه قال لفاطمة ”كل عين باكية يوم القيامة إلا عينُ بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة“ بحار الأنوار، وعن الامام الصادق
أنه قال ”من ذُكر الحسين
عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنّة“ كامل الزيارات
وكثيرون هم الذين يُعظمون الشعائر، ويُحيون المجالس، ويُظهرون الحزن والأسى، وهي ممارسات مأجورة ومشفوعة ومحمودة عند الله تعالى، ومحبوبة لدى أهل البيت ، وقد قال تعالى ”ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب“ وفي الرواية الواردة عن الأمام الرضا
أنه قال إلى الفضل بن شاذان ”رحم الله عبداً أحيى أمرنا“ فقيل له: كيف يُحيى أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويُعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا ”، وفي رواية أخرى يُخاطب الإمام الصادق
أحد أصحابه“ أتجلسون وتتحدّثون؟ ”قال نعم، قال“ أما إنّي لأُحبُّ تلك المجالس، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا، من جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ”الشيخ الصدوق“ علل الشرائع "
ولكن هناك مرتبة أرقى يسعى إليها المحبون الصادقون وهي أن تتحول هذه الدموع إلى بصيرة، والشعائر إلى التزام، والمحبة إلى منهج حياة، وهذا بالطبع لا يعني التقليل من البكاء أو الانتقاص من الشعائر، بل هي دعوة لأن تثمر هذه المشاعر سلوكاً يُجسد الولاء، ويشابه موقف الامام الحسين في وجه الفساد والباطل.
فثمة فرق جوهري بين أن تمشي خلف المسيرة، أو أن تسير في خط الرسالة، وبين أن تبكي على المظلوم، أو أن تُقرّر ألا تكون شريكاً في ظلم يتكرر كل يوم.
فكربلاء الحسين لم تكن لحظة حزن عابرة، أو انفعالا عاطفياً مؤقتاً، بل هي مشروعاً قائماً على الانتصار للحق في كل زمان ومكان. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: -
لماذا كربلاء مدرسة؟ وما الذي يربطها بالأنبياء؟، وكيف تحولت إلى منبر عبر العصور؟
ماهي المدرسة؟ وما الذي يربطها بالأنبياء؟
المدرسة ليست مكاناً فحسب، بل هي منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم والاهداف والمناهج التي تهدف إلى تحرير الأنسان من قيود الجهل والتقاليد البالية وتحريره من سلطة التخويف والهيمنة الفكرية لتجعله يتمتع بحرية الاختيار، والحركة مع التزامه بالأخلاق والقيم العليا، كما هي الجوهر الذي يصنع الوعي ويدفع الانسان إلى أن يسأل ويتأمل ويعيد النظر في كل ما ورثه من معتقدات ومفاهيم.
وقد لخص الشهيد السيد محمد باقر الصدر ”قدس سره الشريف“ هذا البعد في عبارة ٍ موجزة ”الحسين لم يكن مجرد شخصٍ بل قضية متكاملة، وكربلاء ليست ذكرى بل هوية“
وهكذا كانت كربلاء الحسين ، ليست مجرد معركة أو ميدان للقتال بل هي مدرسة تجسدت فيها مبادئ الحرية والكرامة والعدل والحق لا على الورق بل على الرمال، وفيها كتب الدم ما عجز عنه القلم وانتصرت المبادئ حين سقطت الأجساد، وبقي الصوت الذي قال ”لا“ بوجه السيف قائماً يسمعه كل من يريد أن يعيش حرا.
كربلاء: امتداد طبيعي لخط الأنبياء
لا يختلف اثنان من المنصفين على أن كربلاء تمثل امتداداً حيّاً وصادقاً لرسالات الأنبياء ، فالأنبياء بُعثوا لإحياء القيم في حياة الناس: العدالة، والكرامة، والصدق، ومقاومة الباطل، والانتصار للحق مهما كلف الثمن، وهذه القيم ذاتها هي التي حملها الإمام الحسين علية السلام في كربلاء، وأعاد بثّ الحياة فيها في زمن ماتت فيه القيم والمبادئ وبقيت الشعارات.
فقد وقف كما وقف موسى في وجه الطغيان، ومضى كما مضى إبراهيم
في هدم الأصنام، وواجه كما واجه عيسى
فساد الواقع بقلبٍ نقي وروح مصلِحة.
أما عن علاقته بجده محمد صل الله عليه وأله وسلم، فلم تكن مجرد نسب يربطه به، بل كانت امتدادا لروحه وانبعاثاً جديداً لرسالته، فقد تحرك باسم الإصلاح، وبأ سم القيم التي جاء بها جده المصطفى صل الله عليه وآلة، فكانت كربلاء صدىً صادقاً لبعثته، وبياناً حيّاً بأن الرسالة لا تموت طالما وُجد من يُضحي لأجلها.
ومن المعروف أن النبي صل الله عليه وآلة بكى على الأمام الحسين وهو طفل، وقال ”يُقتل ابني هذا بأرضٍ يُقال لها كربلاء“ مما يعني أن كربلاء لم تكن مفاجأة في مسار الرسالة، بل جزء من استمراريتها المؤلمة، وامتحانُ أخلاقي للضمير الإنساني، وقد قال صل الله عليه وآلة في حقه ”حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا“ وفي قول آخر ”إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا“
كربلاء منبر الأنبياء وصوت القيم الخالدة
كيف تحوّلت كربلاء إلى منبر عبر العصور؟ وما الذي جعلها تتجاوز كونها معركة إلى أن تصبح مصدر إلهام دائم؟ ومن هم الفاعلون الذين حافظوا على صوت كربلاء؟ وماهي أدواتهم؟
أحياناً لا تحتاج الأحداث لتكون طويلة كي تترك أثراً عميقاً في القلب والوجدان بل يكفي أن تُقال فيها كلمة صادقة، أو يُتخذ فيها موقفُ لا يُباع، وكربلاء لم تكن أكثر من يوم لكنّها اخترقت عمر الزمن.
لا لأنها كانت معركة بين جيشين أو صراعا بين فكرتين، فكرة ترى في القوة نهاية، وأخرى ترى في المبدأ بداية، ولا لإنها مأساة فحسب، بل لأنها الموقف النادر والحدث الوحيد الذي هُزم فيه الجسد، وظلت الفكرة تنتصر في كل جيل، بل واقنعت العالم بأن الانكسار لا يُقاس بعدد السيوف بل بثبات الفكرة والموقف.
كما أنها وجدت أيادٍ حملت صوتها، وضمائر نهضت في وجه الاستبداد والخذلان، فكانت السيدة زينب رمز الوعي المقاوم، فهي أول من جسّد الاستمرار في الرسالة من بعد الفاجعة، وخطبت في الكوفة وفي الشام لتقول للعالم ”فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا“ مثبتة أن كربلاء لم تكن نهاية الحسين
بل هي بداية لمسار تاريخي لا يُمحى.
ثم جاء دور الامام زين العابدين ليحول الأسر إلى رسالة، والمنبر إلى منصة لبناء الوعي وإحياء الضمير، فكانت مواقفه ودعواته، وخطبه في الشام وفي مواسم الحج والعمرة، بل حتى في الأماكن والأسواق صوتاً للحق، وجرس إنذار لكل الغافلين في العالم، وبعدهم استلم الراية الائمة المعصومين من أبناء الحسين
وأتباعهم من الخُطباء والشعراء والأدباء والفلاسفة والمفكرون وحتى عامة الناس
أدوات الحفاظ على الصوت الحُسيني عبر العصور
أما أدواتهم فكانت المنبر، والقصيدة، والمسرح والمواكب والزيارة والرثاء والدمعة وفي عصرنا الحديث المنبر والأعلام والفضائيات والمنصات الرقمية، وأكبر شاهد على ذلك ما اشارت إليه الدراسة العراقية عام 2023م إلى أن أكثر من 21 مليون زائر من 80 دوله شاركوا في زيارة الأربعين من أتباع مذهب أهل البيت ومن غيرهم.
وهكذا، لم تكن كربلاء مجرّد واقعة في سجل التاريخ، بل كانت ومازالت مدرسةً متكاملة للأنبياء، ومنبراً خالداً للقيم التي بُعثوا لأجلها.
مدرسةً امتزج فيها الدم بالرسالة، والتضحية بالأيمان، فارتفعت كربلاء شاهدةً على أن للحق رجالاً يحملونه مهما اشتدت المحن، وأن القيم لا تموت ما دام هناك من يُحييها بسلوكه وموقفه.
وكما قالت السيدة زينب في حضرة السلطان ”فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد؟! يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين“
فإنّ كربلاء ستبقى حية في الضمائر، متوهجة في العقول، نابضة في القلوب، ما دام هناك مجلسُ تُقام ودمعة ُ تُسكب، وكلمةُ حق تُقال
وأن كل من أحيا ذكر الأمام الحسين بصدق فقد سار في خط الأنبياء وساهم في تجديد الرسالة وأصبح لبنة في صرح كربلاء المتجدد عبر الأزمان.