الدكتور جمال المرهون.. رجل التحديات ونموذج في الإنسانية

من يعرف الدكتور جمال المرهون عن قرب، يكتشف عمق هذا الإنسان المؤمن بخدمة الناس والمجتمع، وحرصه الدائم على دعم المشاريع الخيرية والاجتماعية والوطنية والدينية والثقافية. كان ذا وعيٍ عميق بالمسؤوليات الكبيرة التي يحملها على عاتقه، خصوصًا تجاه الطفل وإعداده تربويًا وفكريًا ليكون رجل المستقبل الصالح، البارّ بأهله ومجتمعه ووطنه.

كان الدكتور جمال يحمل همًّا كبيرًا، بل همومًا متعددة، في بناء جيلٍ يمتلك الكفاءة العلمية والدينية والوطنية، جيلٍ رائدٍ في مختلف المجالات العلمية والعملية. وكان يؤمن بأن الشباب هم أهم استثمار تصنعه العائلة والمجتمع، وأن إبعادهم عن اللهو والعبث يقتضي توفير برامج تربوية بنّاءة تصقل شخصياتهم وتُنمّي قدراتهم.

لم يكن فكره يهدأ ليلًا أو نهارًا؛ فقد كان مشغولًا دائمًا بكيفية ملء فراغ الشباب بما هو مفيد، حتى لا يقعوا فريسة في أيدي العابثين أو ينحرفوا عن أهدافهم الدراسية والمستقبلية، مما قد يؤدي إلى تحطيم أحلامهم وأحلام أسرهم ومجتمعهم، ويحوّلهم لا قدر الله من طاقات وطنية منتجة إلى خسارة وطنية مؤلمة.

ولم يتحول الدكتور جمال إلى رافدٍ ثقافيٍّ في يوم وليلة، ولم يكن مشروعه الثقافي وليد صدفة أو ضربة حظ، بل كان ثمرة إرادةٍ مثابرة وروحٍ مؤمنةٍ مخلصةٍ بدورها الإنساني والديني والوطني.

لقد تشرّب هذه القيم منذ نعومة أظفاره من والده المرحوم عبد الله المرهون «أبا جمال»، الذي كان من أبرز الناشطين الاجتماعيين، صاحب شخصية كاريزمية محبوبة، قريبة من الناس بحبها وخدمتها وإخلاصها. هذه الروح الأبوية والاجتماعية انعكست بوضوح على شخصية ابنه الدكتور جمال، الذي ورث عن أبيه عشق الخدمة الاجتماعية، والسعي إلى إدخال السرور في قلوب الناس، والانصهار في عمل الخير بكل أنواعه وأشكاله.

لقد كان الفقيد أبا محمد - وبدون أي مبالغة - مجموعة مشاريع في إنسان واحد. كان يملك رؤية مستقبلية ثاقبة، ورجل تحديات لا يعرف الاستسلام، يواجه الصعوبات بعزيمة فولاذية وإرادة نادرة.

كان يحمل همّ الطفل والمستقبل، فأسّس العديد من الدورات الثقافية والتربوية الهادفة إلى تنمية الابتكار وتنشيط التفكير لدى الأطفال، عبر أساليب تعليمية معاصرة ومحببة، تساعدهم على فهم الحياة بعقل منفتح ونفسٍ مطمئنة.

كما أولى اهتمامًا خاصًا بإنشاء مجلسٍ حسينيٍّ مبارك لبث ثقافة أهل البيت ، فكان لذلك أثر اجتماعي وروحي كبير. ولم يكتفِ بذلك، بل أنشأ منتدى ثقافيًا أسبوعيًا يستضيف فيه نخبة من المثقفين والمتخصصين في مختلف المجالات، حيث كانت اللقاءات تُدار بروحٍ من الحوار الهادئ والانفتاح الفكري بعيدًا عن التعصب، مما جعل بيته منارة ثقافية تشعّ بالمحبة والتفاهم.

وعلى الصعيد الشخصي، كان الدكتور جمال يتميز بصفات إنسانية راقية، أبرزها صبره وشكره لله رغم ما ابتُلي به من معوقات جسدية، إذ كان يرى في البلاء محطة إيمانية يتقرب بها إلى الله أكثر. وكان كثير الافتخار بوالده وبما تركه من أثر اجتماعي طيب، وعدّ ذلك من صور البرّ بوالديه. كما كان يعتزّ بزوجته الفاضلة الدكتورة أم محمد، ويصفها بأنها مركز إشعاع وإلهام في حياته، ورفيقة دربه ومستشارته الأولى، وهو بذلك يجسّد نموذجًا راقيًا للحياة الزوجية الصالحة المستمدة من ثقافة أهل البيت .

أما اجتماعيًا، فقد كان إنسانًا ودودًا متواضعًا، قريبًا من الصغير قبل الكبير، صادقًا في فكره ومنطقه، واضحًا في علاقاته، بعيدًا عن الأقنعة الاجتماعية الزائفة. لذلك أحبّه الناس بصدق، واتسعت شبكة علاقاته في مختلف المناطق.

وقد تجلى أثره الكبير في حزن الناس العميق على رحيله، إذ عبّرت مشاعرهم في الواقعين الحقيقي والافتراضي عن حجم الفقد والفراغ الذي تركه بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى.

نعم، لقد فجعتُ بخبر رحيلك إلى الرفيق الأعلى يا أبا محمد، وغمرني الحزن لفقد إنسانٍ عاش مؤمنًا، مسالمًا، ناشطًا اجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا، رغم انشغالاته الكثيرة في ميادين العلم والعمل والبحث الأكاديمي مع طلابه، الذين كنتَ لهم أبًا حنونًا قبل أن تكون أستاذًا ومعلمًا فذًّا واسع العلم والأخلاق والمعرفة.

عشنا معك أيامًا جميلة لا تُنسى، جمعتنا الحوارات الثقافية والفكرية الراقية، نختلف أحيانًا ونتفق كثيرًا، لكن القلوب كانت دائمًا متآلفة مفعمة بالمحبة الصادقة.

رحمك الله يا دكتور جمال برحمته الواسعة، وأسكنك فسيح جناته، وحشرك مع أسيادك الأطهار محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

الفاتحة المباركة على روحه الطاهرة.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.