النجاح الإداري أكثر من مجرد موارد
هل تساءلت يوماً لماذا تعجز بعض المؤسسات عن تحقيق أهدافها رغم توفر الموارد الكاملة من موظفين واموال ومواد خام ونُظم معلومات، وكل هذه الأدوات والإمكانيات؟ وهل يكفي أن يشغل الشخص منصب ”مدير“ ليقود فريقه بنجاح؟
بالنظر إلى الواقع نجد أن كثير من المؤسسات التجارية تعاني من خلل في وجود مدراء يمتلكون المعرفة النظرية ولكنهم يفتقرون إلى المهارات التطبيقية أو ما يُعرف اليوم ب ”الأمية الإدارية“
في هذا المقال سنستعرض هذه الظاهرة بعمق، ونميّز بين المعرفة والمهارة، ونبحث في جذورها وأسبابها ثم نقترح حلولا عملية لبناء قيادات فاعلة فكونوا معنا
مفهوم الأمية الإدارية
عرّف ”هارولد كونتز“ «أحد رواد الإدارة الحديثة» الأمية الإدارية بأنها " عدم القدرة على توظيف المعرفة الإدارة النظرية في مواقف عملية معقدة.
وفي دراسة لجامعة القاهرة «2019» اعتُبرت الأمية الإدارية بأنها ”عدم ملاءمة القدرات والمهارات القيادية للمتطلبات الفعلية للمؤسسة مما يؤدي إلى اخفاق في تحقيق الأهداف الاستراتيجية“
أما الدكتور ”سعيد بن عطية أبو عالي“ «الخبير التربوي والإداري السعودي» فيراها على أنها ”قصوراً في الإدراك والمهارات التنفيذية التي تحول دون تحقيق الأفكار إلى أداء“
والمشترك بين هذه التعريفات هو أن المشكلة ليست في " نقص الموارد بل في غياب القدرة على توظيفها بفاعلية.
الأسباب والتأثيرات
كثيرُ من المؤسسات المحلية تثبت أن وفرة الموارد وحدها لا تضمن النجاح، والمشهد يُشبه سفينة حديثة مليئة بالمؤن والوقود، ولكن ربانها لا يُحسن قراءة البوصلة أو مواجهة الأمواج، وهذه جوهر الأمية الإدارية ”امتلاك الأدوات دون القدرة على استخدامها بفاعلية“ ومن أبرز أسبابها
1 - الترقية على أساس الولاء لا الكفاءة
في بعض المؤسسات المهنية وبخصوص الصغيرة والمتوسطة منها يُمنح المنصب الإداري لكون الشخص مقرّباً من صاحب القرار أو ينتمي لعائلته أو لتياره أو...... لا لمهاراته، وهذا ما ينتج عنه بيئة إدارية غير مؤهلة أو غير كفؤة، كما يقول بيتر دراكر ”أخطر القرارات الإدارية هي تعيين اشخاص في مواقع قيادية دون النظر لقدرتهم على القيادة“
2 - الاعتماد على الشهادات النظرية فقط
قد نرى بعض المدراء يحملون شهادات عليا في الإدارة، ولكنهم لم يمروا بتجربة ميدانية حقيقية فتكون النتيجة قرارات جميلة على الورق وفاشلة في التنفيذ.
مثل: شركة عربية كبرى في قطاع التجزئة استقدمت مديراً أجنبياً حاصلا على درجة الدكتوراه في الإدارة لكنه فشل في التكيّف مع ثقافة السوق المحلي فانخفضت المبيعات بنسبة 25% خلال أول عام.
3 - غياب برامج التطوير المستمر
كثير من المؤسسات المحلية لا تُدرّب مدراءها بعد التعيين، مما يجعلهم أسرى معارفهم القديمة، والإحصاءات تشير إلى أن 70% من المدراء في المنطقة العربية لم يُشاركوا في أي تدريب إداري خلال ثلاث سنوات.
4 - ثقافة ”أنا أعرف“
وهي عبارة تشير إلى أن بعض المدراء يرفضون التعلم المستمر أو الاستعانة بالخبراء لأنهم يظنون أن المنصب يمنحهم المعرفة تلقائياً وهذا ما يقود إلى قرارات عشوائية كما قال سقراط ”أول الحكمة أن تعرف أنك لا تعرف“
أثر الأمية الإدارية على استغلال الموارد
الأمية الإدارية لا تعني الجهل بالمفاهيم والنظريات الإدارية وأنماء هي حالة يكون فيها المدير على دراية بكل جوانب الإدارة لكنه يفتقد القدرة على تحويلها إلى إجراءات عملية وقرارات مؤثرة.
وقد أظهرت دراسة من البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية أن ضعف الكفاءة الإدارية هو أحد أهم أسباب الهدر في الموارد في المؤسسات حيث تصل نسبة الفاقد في بعض القطاعات إلى أكثر من 30% من الميزانيات المخصصة، ليس بسبب نقص التمويل بل بسبب سوء التخطيط وسوء المتابعة وضعف القدرة على تحفيز وتنظيم فرق العمل.
ولذا فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي: أن الأمية الإدارية تحوّل الموارد مهما كانت وفيرة إلى عبء كما قال وارن بافيت وهو ”رجل أعمال ومستثمر أمريكي ويُعد من أنجح المستثمرين في التاريخ“، وقد نُقل عنه بأنه تبرع بأكثر من 99% من ثروته لصالح الأعمال الخيرية ”الإدارة السيئة قادرة على تدمير شركة قوية أسرع مما تتخيل“ وهذه ليست مجرد عبارة بل هي واقع مُعاش ومكرر
المعرفة والمهارة: ثنائية الإدارة الناجحة
المعرفة: هي المعلومات التي نكتسبها عن موضوع معين وتشمل الحقائق والقوانين والنظريات، والخبرات التي نتعلمها من خلال الدراسة أو التجربة، أو الفهم النظري والتخطيط الاستراتيجي
المهارة: هي القدرة على التنفيذ الفعلي وتحقيق الأهداف على أرض الواقع وتشمل الإداء العملي، واتخاذ القرار واستخدام الأدوات والتفاعل مع الآخرين بفعالية.
أرامكو السعودية خير مثال: فهي من حيث المعرفة تدير واحداً من أكبر مراكز البحث في مجال الطاقة والهيدروكربونات على مستوى العالم، وتمتلك رؤية طويلة الأجل لإدارة موارد الطاقة، وتنويع مصادر الدخل بما يتماشى مع رؤية السعودية 2030 م وتعتمد على أنظمة معلومات متقدمة لدعم اتخاذ القرار، ومن حيث المهارة فهي تدير أكبر منشآت النفط في العالم بكفاءة تشغيلية عالية مع القدرة على التكيف السريع في أوقات الأزمات مثل تقلبات السوق أو جائحة كوفيد 19، وتستثمر في تدريب موظفيها بشكل مستمر داخل وخارج المملكة مما يكسبهم المهارات التقنية والإدارية المطلوبة.
استراتيجيات التجاوز وبناء القيادات الفاعلة
حين ننظر إلى واقع مؤسساتنا نجد أن الموارد المادية والبشرية ليست هي المشكلة الأساسية بحد ذاتها، بل طريقة إدارتها وتوظيفها، فكم من مؤسسة تمتلك أحدث التقنيات وأفضل الكفاءات لكنها تعاني من الضعف في الأداء والإنتاج وضياع الفرص، والسبب كما أعتقد لا يكمن في ندرة الإمكانيات أو القدرات فحسب وانما يكمن في قصور القيادات الإدارية وفقدان المهارات العملية لدى صانع القرار.
ومن هنا يصبح تجاوز الأمية الإدارية ضرورة لا خيار، لإنه المدخل الرئيس لتحقيق الأداء الفعال والاستثمار الأمثل لكل ما تمتلكه المؤسسة من موارد بشرية ومالية وتقنية، ولعل من أهم الاستراتيجيات لتجاوز الأمية وتحقيق النجاح
1 - الإعتراف بالمشكلة قبل معالجتها
إن أول خطوة في أي عملية إصلاح هي: الاعتراف بوجود الخلل، والمؤسسات التي تتجاهل المشاكل أو تتعامل معها وكأنها حدث عابر أو لا تُعير لها أية أهمية غالباً ما تتراكم عليها الأخطاء وبالتالي لا تستطيع حلها، وهذا ما أشارت إليه الدراسة من جامعة هارفارد إلى أن الشركات التي أجرت تقييماً صريحاً لمهارات مديريها ووضعت خطط تطوير نجحت في رفع إنتاجيتها بنسبة 23% خلال ثلاث سنوات
2 - تحويل المعرفة إلى مهارة
تماماً كما أن القراءة عن السباحة لا تجعلك سبّاحاً، فإن القراءة عن التخطيط الاستراتيجي مثلا لا يعني القدرة على وضع خطة ناجحة، ولكن الحل بكل بساطة يكمن في التدريب العملي والمحاكات الواقعية، حيث أظهرت تجربة ”شركة تويوتا“ أن برامج المحاكاة الإدارية خفّضت معدل الأخطاء الإدارية بنسبة 35%، والمحاكاة هي: أسلوب تدريبي وتعليمي يقوم على تمثيل بيئة العمل الحقيقية بشكل افتراضي أو مبسط بحيث يتم وضع المشاركين في مواقف وأحداث مشابهة لما يقابلونه فعلياً في الإدارة لكن ضمن بيئة آمنة تسمح بالتجربة واتخاذ القرارات وملاحظة النتائج من دون أن يترتب على ذلك خسائر حقيقية.
3 - القيادة بالقدوة لا بالأوامر
الألقاب لا تجعل منك قائداً أو مديرا قدوة، وإنما تصرفاتك هي التي تحدث الفارق، والقادة النموذجيون يعرفون أنهم إذا أرادوا الفوز بالتزام الآخرين وتحقيق أعلى المعايير فعليهم أن ينتهجوا السلوك الذي يرغبون في أن يتبناه الآخرون، كما فعل أندى جروف مؤسس ”شركة إنتل“ وهي واحدة من أكبر وأشهر الشركات التكنولوجية في العالم، الذي كان يُشارك بنفسه في فرق حل المشكلات قبل أن يطلب ذلك من موظفيه، فقبل أن تكون قائداً للآخرين ينبغي عليك أن تعرف بوضوح من أنت وماهي قيمك الأساسية وبمجرد أن تعرف هذه الأمور يمكنك أن تكون كقائد لهم.
4 - التعلّم المستمر والبحث عن أفضل الممارسات
فما كان صالحاّ قبل سنه على سبيل المثال قد لا يكون صالحا ً اليوم، وقد اشارت منظمة OECD وهي اختصار لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية Organization for Economic Cooperation and Development إلى أن المؤسسات التي خصصت 03% على الأقل من ميزانيتها للتدريب المستمر حققت نموا في الإيرادات يفوق مثيلاتها ب 15%
5 - توطين النماذج الإدارية أو الوسائل الإدارية التي يستخدمها المديرون لتحليل البيانات واتخاذ القرارات ومراقبة الأداء مثل «التحليل الرباعي SWOT وتحليلPESTE وFlowcharts لرسم العمليات الإدارية خطوة بخطوة بشكل بصري يسهل الفهم والتحليل وبطاقة الأداء المتوازن BSC وتحليل Pareto 20/80 وغيرها...» من الأدوات والنماذج
إن استيراد نماذج إدارية ناجحة من الخارج دون تكييفها مع الثقافة المحلية غالباً ما يؤدي إلى نتائج عكسية وهو ما تحدثنا عنه في المقال السابق ”كيف نبني وعينا الإداري“ مثل فشل بعض فروع الشركات العالمية في الشرق الأوسط عندما تجاهلت القيم والعادات المحلية في أسلوب الإدارة والتحفيز
الخاتمة
تؤكد الحقائق أن النجاح الإداري ليس نتاجاً حتمياً لتوفر الموارد المادية أو البشرية بل هو ثمرة القيادة الواعية القادرة على توظيف هذه الموارد بفعالية.
فالأمية الإدارية بوصفها الفجوة الخطيرة بين المعرفة النظرية والمهارة التطبيقية تمثل تحديا وجودياً للمؤسسات المحلية والعربية، وإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب إرادة مؤسسية جادة تبدأ بالاعتراف بوجود الخلل وتبنّي الاستراتيجيات العملية، وبهذه الرؤية الشاملة يمكن لنا تحويل الموارد والإمكانيات المعطلة إلى محركات للنجاح وبناء مؤسسات مرّنة تواكب تعقيدات العصر وتُحقق أهدافها الاستراتيجية